خليل المعلمي
لم يصبح العالم قرية واحدة كما تنبأ بذلك العالم الكندي ” مارشال ماكلوهان” الخبير في وسائل الاتصال الجماهيري قبل عدة قرون، بل أصبح في وقتنا الحالي شاشة واحدة تتداخل فيها الآراء المختلفة وتنتقل عبرها الأخبار العالمية في لحظتها وحين وقوعها.
ووفقًا لرأي “ماكلوهان” فإن عصر الإلكترونيات قد حلّ محل عصر الطباعة، فالوسائل الإلكترونية تجعل الاتصال سريعًا، لدرجة أن الشعوب ـ على اختلاف مواقعها في العالم ـ تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين. والنتيجة كما يرى أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، ونمو مجتمع عالمي جديد، كان هذا حديثه عن العصر الذي سيطرت فيه وسائل الاتصال المسموعة والمرئية.
أما مع دخول العقد الثاني من الألفية فقد أصبح العالم شاشة صغيرة تتحكم فينا بخوارزميات يبتكرها إنسان مثلنا، لكنها تفلت من بين يديه وتصبح هي المتحكم فيمن يمسكون تلك الشاشات، بل في صناعها إذا لزم الأمر. من هذه الرؤية ينطلق الكاتب وخبير “السوشيال ميديا” محمد عبد الرحمن، في كتابه الجديد “مدينة المليار رأي” الصادر عن دار “دون” للنشر والتوزيع بالقاهرة يعد الكتاب بمثابة قراءة نفسية اجتماعية في “أمراض وأوهام” عالم مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: الاجتزاء، والتوهم، والانتحال والفراغ، والماضوية والانسلاخ حيث يكشف المؤلف كيف أن العالم لم يعد قرية صغيرة كما قال الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان؛ بل بات شاشة صغيرة، حجمها ثابت لكنها منتشرة بين أيادي الملايين يقف كل منهم “افتراضياً” بمفرده معزولاً عن الآخرين؛ لكن واقعياً كلنا مرتبطون بعضنا ببعض، نتأثر بما يجري حولنا سلباً وإيجاباً، وإن كانت السلبيات لا تعد ولا تحصى، بينما الإيجابيات تتضاءل يوماً بعد آخر.
ويوضح المؤلف أن الكل يُحذِّر من إدمان “السوشيال ميديا” ويقترح طرقاً وأدوات للتخلص منه، لكن إذا تخيلنا هذا الإدمان كصوبة زراعية تجمع من يصابون به في مكان واحد، فإن تلك التربة المصابة بالعطب نتج عنها كثير من الأمراض والأعراض الرقمية التي تحمل تشوهات نفسية ومجتمعية بسبب الإفراط في الاستسلام لمنصات مواقع التواصل الاجتماعي.
يقع الكتاب في 144 صفحة، وفي كل فصل من فصوله التسعة يتوقف المؤلف أمام مرض رقمي سببته منصات التواصل، ويحلل ملامحه الحالية وجذوره فيما قبل عصر الإنترنت، وكيف ساهمت المنصات المختلفة في انتشاره، وكأننا في جائحة ممتدة، لكنها جائحة متعددة الفيروسات، بحيث لو أفلت الإنسان من الأول داهمه الثاني ولاحقه الثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية، لافتاً إلى أن الناس أصبحوا يطرحون آراءهم في كل شيء، ومن المؤسف أن الإنترنت والهواتف الذكية أوهمت الجميع بأن لديهم سلطة، وللأسف ليس هناك ضبط لما يحدث على مواقع التواصل..
فباتت التحديات التي وفي نبرة لا تخلو من التحذير يقول المؤلف: “بالتأكيد لم نتوقع أنه عبر إحدى هذه المنصات ستنتهي حياة البعض، لأنه شارك في شيء اسمه (تحدٍّ). تغيّرت المعاني كنا نخوضها في الدراسة والرياضة والعمل، مجرد حركات قاتلة نمارسها لثوان عبر تطبيق مثل (تيك توك)، ثم تخرج التحذيرات من أن هذا التحدي يؤدي إلى الوفاة. تحذير ليس كالذي ولدنا نقرأه على علب السجائر، حيث نشاهد الناس تدخن ولا تموت، بل تحذيرات تُطلق بعد أول وفاة فعلية، فمن يخترع تلك التحديات؟ ومن أين يجد الناس الوقت لكل تلك الممارسات السلبية؟ من الذي يقف وراء كل هذا في مدينة المليار نسمة وأكثر؟
مشكلة يطرح المؤلف التساؤل ثم يجيب: “لن تجد إجابة محددة عن هذا السؤال، ولن تفيدك الإجابة إذا وجدتها، فمن اخترع السكين أو الرصاصة أو القنبلة تركها غير مسؤول عن كيفية استخدامها، ومعرفته وتوجيه اللوم له لن تمنع استمرار القتل، المهم هو تجنب طعنة السكين وتفادي طلقة الرصاص، ولن يحدث هذا إلا إذا اعترفنا بأن هناك يجب أن تحل، لا أن نستسلم لها”.
وكان قد صدر للمؤلف الكتاب “صفر” عن كواليس العمل الصحافي في فبراير 2018م، وكتاب “فلسفة البلوك” في يونيو (حزيران) 2021م، والذي تناول خلاله تحليل سلوكيات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، والتغيرات التي لم تكن لتحدث إلا في ظل اندماج الفضاء الإلكتروني مع الحياة الواقعية.