انتخابات صعبة تقسم الشارع في جولة الحسم
لماذا فشلت المعارضة التركية في الانتخابات رغم تراجع شعبية اردوغان؟
حتى سنوات قليلة كان حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان يتصدر مشهد السباق الانتخابي بأرضية انتخابية كبيرة مكنته البقاء في رأس السلطة لـ 20 عاما، لكن الأمور تغيرت كثيرا في السنوات الأخيرة، مع استعادة المعارضة نشاطها السياسي وتنامي رقعة المؤيدين للتغيير، والتي منحت تحالف الأمة المعارض بقيادة زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار اوغلو فرصة تاريخية فشل في استثمارها.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
حتى وقت قريب كانت أكثر استطلاعات الرأي العام ومعها أكثر قادة وتحالف الشعب بزعامة حزب العدالة والتنمية يتوقعون فوزا كاسحا لمعسكر المعارضة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية غير ان النتائج كانت مفاجئة للجميع بعدما أفضت إلى اغلبية برلمانية لتحالف الشعب بقيادة العدالة والتنمية وحصول الرئيس رجب طيب اردوغان على نسبة 49.4 % من أصوات الناخبين مقابل 45% لمنافسه مرشح المعارضة كمال كليشدار اوغلو.
ويستعد المعسكران اليوم لخوض جولة ثانية مقررة في 18 مايو الجاري، في معركة تنافسية صعبة يتخللها استقطابات عنيفة تعصف بالشارع التركي المتأرجح بين معسكرين متوازيين في القوة، الأول يمثله السيار العلماني الحامل لمشروع التغيير، والثاني يمثله التيار المحافظ الطامح لتمديد سلطة حزب العدالة والتنمية فرصة جديدة تمنح رجب طيب اردوغان ولاية رئاسية جديدة ترفع سنوات حكمه إلى 25 عاما.
في هذه الانتخابات أدلى الأتراك بأصواتهم في أكثر من 191 ألف صندوق اقتراع في 81 ولاية من أجل انتخاب رئيس جديد للبلاد لمدة 5 سنوات، وانتخاب أعضاء البرلمان البالغ عددهم 600 نائب، في حدث حظى باهتمام إقليمي ودولي واسع خصوصا في ظل احتدام المنافسة بين معسكرين يمثل الأول التيار الإسلامي اليميني والثاني يمثل التيار العلماني المائل للغرب، وهو المشهد الذي ساهم بزيادة نسبة المشاركة في عملية الاقتراع لتبلغ 88.75% في الداخل و51.92% في الخارج بواقع 54 مليون نسمة من اجمالي عدد السكان في تركيا، وهي أعلى نسبة مشاركة تتحقق في تاريخ تركيا.
وعلى أن استطلاعات الرأي العام وتقديرات الخبراء كانت تشير إلى فوز محتمل للمعارضة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها تركيا من جراء أعتى موجة تضخم وغلاء تُسجل خلال فترة حكم اردوغان، وفي ظل التراجع الكبير لشعبية الرئيس اردوغان، غير أن مزاج الشارع الانتخابي كان حاسما بمنحه حزب العدالة والتنمية أغلبية في المقاعد البرلمانية وتعزيز فرص فوز اردوغان لولاية رئاسية جديدة.
تنافس معسكرين
مدى الأشهر الماضية ظلت تفاعلات الانتخابات التركية تدور في إطار تنافس محموم بين معسكرين الأول قاده الرئيس رجب طيب اردوغان الذي ترشح باسم تحالف الشعب (يضم أكثر الأحزاب القومية والإسلامية) والثاني قاده المعارض التركي الأبرز زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليشدار اوغلو الذي ترشح عن تحالف الأمة (يضم أحزابا يسارية وعلمانية وقومية).
هذا المشهد أظهر للمرة الأولى حالة الانقسام المتشكلة في الشارع التركي بين التيار المحافظ المائل لسياسة التوازن بين الشرق والغرب، والتيار العلماني المائل للغرب بصورة كبيرة، بما عكسه ذلك من تصورات مستقبلية يتوقع أن تحدد المسار المستقبلي للدولة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط.
وقد افضى التنافس الانتخابي الرئاسي إلى حصول الرئيس أردوغان على 49.4% من الأصوات، بينما حصل منافسه المعارض كمال كليشدار اوغلو على 44.96% من الأصوات، في نتيجة متأرجحة وضعت المتنافسين أمام جولة إعادة ثانية، وفقا للقانون الانتخابي الذي ينص على جولة ثانية تجمع المرشحين الذين حصدا أكبر نسبة من الأصوات.
وهذه النتيجة تزامنت مع أخرى متعلقة بالانتخابات البرلمانية التي أفضت إلى حصد تحالف الشعب بزعامة الرئيس أردوغان وحزبه اغلبية في مقاعد البرلمان بواقع 320 مقعدا من أصل 600 مقعد، وهي نسبة بدت قريبة من معدلات الفوز المحققة للمرشحين في الانتخابات الرئاسية.
مفاجآت خارج التوقعات
على مدى عقود ظلت الانتخابات التركية موضع اهتمام العديد من العواصم العربية والدولية وتزايدت في السنوات الأخيرة بصورة كبيرة، نظرا للدور التركي المؤثر في التحولات الإقليمية والعالمية حتى صارت الانتخابات التركية موضع اهتمام كثير من العواصم العربية والدولية التي تطمح بالتأثير على مساراتها.
والانتخابات الأخيرة لم تكن استثناءً فقد كانت اشبه بمعركة مصيرية داخليا وخارجيا، حيث شكلت المعارضة التركية تحالفا قويا استهدف بالمقام الأول الإطاحة باردوغان وإعادة النظام البرلماني، وهو الأمر الذي عبر عنه مرشح المعارضة القوى زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار اوغلو بالتأكيد على أن خوضهم المعترك الانتخابي استهدف “ إعادة الديموقراطية لتركيا” في إشارة إلى العودة بتركيا إلى النظام البرلماني.
هذه الأهداف حظيت باستجابة لافتة من نصف الشارع التركي الذي منح أصواته لمرشح المعارضة في مقابل انحسار الأصوات التي حصل عليها منافسه اردوغان بفارق بسيط للغاية جعل النتيجة غير حاسمة من جهة، وشجعت إلى حد كبير حزب العدالة والتنمية لخوض منافسة أكثر شراسة في الجولة الثانية للسباق الرئاسي، بعد أن كانت توقعاتها ترجح الخسارة في هذه الانتخابات على المستويين البرلماني والرئاسي خصوصا بعدما أفضت العملية الانتخابية إلى أربعة مرشحين جعلت من قدرة المرشحين الكبيرين للعدالة والتنمية والمعارضة على حسمها من الجولة الأولى أمرا صعبا.
وتبدو توقعات حزب العدالة والتنمية التي سبقت العملية الانتخابية كانت واقعية، فالقراءة العميقة للمشهد الانتخابي التركي تشير إلى أن المنتصر في الانتخابات البرلمانية لم يكن حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان، بل تحالف الجمهور الذي يضم مجموعة من الأحزاب الإسلامية واليمينية في مقابل تحالف الأمة الذي ضم أحزابا يسارية وقومية.
ويمكن القول إن حصد تحالف الشعب بقيادة اردوغان لأغلبية مقاعد البرلمان لم يكن نجاحا لحزب العدالة والتنمية، بل عكس فشل قوى المعارضة في تحالف الأمة، التي أخفقت في الاستفادة من عناصر الضعف لدى حزب العدالة والتنمية ولم تقدم برنامجا اقتصاديا يلبي مطالب الشعب التركي، كما لم يقدم كوادر جديدة تلبي تطلعات الشارع التركي للتغيير.
وبقراءة الأرقام التي فاز بها كل مرشح والنتائج التي خلصت اليها استطلاعات الرأي العام السابقة، يتضح أن الأتراك كانوا يطمحون للتغيير، لكنهم بالقابل كانوا يطمحون إلى مرشح أقوى من كليشدار اوغلو أو طاقة شبابية جديدة تترجم تطلعاتهم بالتغيير.
ولعل النتيجة التي حصل عليها المرشح الثالث سنان اوغان التي زادت عن 5% رغم ضعف حضوره السياسي يشير إلى ذلك، إذ كان مرشحا شابا عبر عن تطلعات التيارات القومية التركية ومطالبها في التغيير.
تراجع اردوغان
طالما استند الرئيس اردوغان إلى حزب سياسي قوي ذي شعبية واسعة ومؤثرة في المشهد السياسي التركي بالنظر على إنجازاته الكبيرة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية مرافق البنية التحتية، إلا أن شريحة واسعة من الأتراك وخصوصا فئة الشباب صارت بسبب الفترة الطويلة له بالحكم تشعر بالملل من وجود رئيس لعشرين سنة ويطالبون بالتغيير، وهو ما لم يستطع حزب العدالة والتنمية مقاومته.
وثمة أسباب عدة تقف وراء تراجع شعبية اردوغان يتصدرها النشاط السياسي الواسع النطاق الذي قاده حزب الشعب الجمهوري المعارض والتي أدت إلى حصده مكاسب سياسية بدأت خلال الانتخابات البلدية قبل أن تشهد تراجعا طفيفا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
بالمقابل جاء زعيم الحزب الجمهوري بوعود يحتاجها الأتراك في المرحلة الراهنة، وفي المقدمة منها الانفتاح نحو العالم الغربي خلافا لسياسة غريمه اردوغان التي انكفأت فيها تركيا على نفسها بسبب السياسة التي أعتمدها اردوغان بإمساك العصا من المنتصف في علاقاته المتوازنة بين الشرق والغرب.
والعامل الآخر الذي إثر على نتائج الانتخابات كان ملف اللاجئين السوريين، حيث تبنت المعارضة منذ سنوات موقفا يقضي بعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهي القضية التي تصدرت البند الأول في برنامج المعارضة ووجدت أصداءً لدى الشارع التركي الذي ترفض نسبة كبيرة منه إبقاء اللاجئين السوريين وغير السوريين في الأراضي التركية.
ومن الواضح أن قوى المعارضة كانت متهيئة للفوز بهذه الانتخابات، بشقيها البرلماني والرئاسي، لكنها فشلت في استثمار هذا المناخ فشلا ذريعا، كما فشلت في تقديم برامج عمل يمكن للأتراك الوثوق بها خلال الفترة القادمة.
فرص مواتية الفرصة الثانية
استنادا إلى الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي التي أفصحت عن تراجع كبير لشعبية اردوغان وحزب العدالة والتنمية، تفاجأت قيادات الحزب بالنتيجة التي حصلت، بعد أن كانت توقعاتهم تُرجح الخسارة في الانتخابات البرلمانية وفوز متأرجح لأردوغان من الجولة الأولى بنسية 51 %.
المؤكد أن المعركة الانتخابية التي خاضها حزب العدالة والتنمية كانت معركة ميئوس منها، لكن الإدارة الانتخابية نجحت في تحقيق فارق استثنائي تجاوز الكثير من العقبات من خلال دفعها بنوعية خاصة من المرشحين للانتخابات البرلمانية استطاعت قلب مزاج الشارع التركي المتطلع للتغيير رأسا على عقب.
وكان واضحا أن حزب العدالة والتنمية رمى هذه المرة بكل ثقله السياسي والانتخابي بعد كانت استطلاعات الرأي كشفت تصدر رجب طيب اردوغان الترتيب الثاني في قائمة المؤيدين بنسبة 41.1% مقابل حصول منافسه كليشدار اوغلو المرتبة الأولى بنسبة 42.6 %.
وحيال ما تقتضيه القوانين الانتخابية التركية لتنظيم جولة ثانية لحسم السباق على مقعد الرئاسة، فإن التقديرات الأولية تشير إلى احتمال تحقيق اردوغان فوزا في الانتخابات الرئاسية، استنادا إلى النسبة الكبيرة التي حصل عليها في الجولة الأولى والتي خلقت حماسا جديدا لدى تحالف الشعب بقيادة حزب العدالة والتنمية بتحسين مستوى الأداء قليلا للحصول على النسبة البسيطة الباقية التي تؤهل اردوغان للفوز.
بالمقابل فإن المرجح أن يكون لفشل أحزاب المعارضة في تحالف الأمة في تحقيق اغلبية برلمانية لها ارتدادات على مستوى الانتخابات الرئاسية، كونها قد عززت الثقة لدى المعسكر المنافس الذي يمثله تحالف الشعب بقيادة اردوغان، وفي الوقت نفسه حجمت من تطلعات أنصار التيار العلماني الموالي للغرب بالتغيير.
وثمة معطى أخر يجعل من فوز اردوغان محسوما بالجولة الثانية ويتمثل في الفارق الكبير في أصوات الجولة الأولى والتي حصد فيها اردوغان نسبة أكبر بكثير من النسبة التي حصدها منافسه كمال كليشدار اوغلو.
وأكثر من ذلك أن الشارع التركي يدرك أهمية التناعم بين البرلمان والرئاسة، ويعرف تماما ما سيؤول اليه وضع الحكومة الجديدة في حال فوز مشرح المعارضة في مقعد الرئاسة في ظل برلمان يسيطر خصومة السياسيين على اغلبية مقاعده، وهو وضع تتحاشى أكثر النخب السياسية التركية الوصول اليه كونه سيقود إلى زعزعة استقرار البلد لسنوات في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة على المستوى الدولي.
بالمقابل فإن مزاج الشارع التركي الطامح بالتغيير يعزز فرص فوز مرشح المعارضة في الجولة الثانية، ويزيد من ذلك نسبة أصوات الناخبين في الخارج المقدرة بحوالي 2%، فضلا عن التأثير الذي يمكن أن تخلفه 5% من أصوات الناخبين الذين يمثلون التيار القومي المتشدد الأقرب إلى كليشدار اوغلو.
تزداد فرص فوز مرشح المعارضة عند الحديث عن معطى التأثير الغربي على مسار الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التركية، والتي يتوقع بالنظر إلى العلاقات المتوترة مع نظام اردوغان أن تتجه نحو دعم مرشح تحالف المعارضة كليشدار اوغلو.
ومع ذلك تبقى هذه المعطيات مؤثرات ثانوية يصعب الاعتماد عليها، للجزم بالنتيجة النهائية للجولة الثانية خاصة بعد الدرس الذي قدمته التجربة القريبة والتي تدعو بقوة إلى التواضع حيال توقع سلوك الناخبين.