حتى العام 1979م كان مسلمو العالم يحجون لمكة والمدينة فيما كان حكام وأمراء آل سعود وشيوخ الخليج يحجون بدورهم لقصر (الشاه في طهران يقبلون أياديه وركبه وينحنون تأدبا في حضرته)..؟!
إلى أن قامت الثورة في إيران واسقطت (نظام الشاه) وعجزت أمريكا وبريطانيا وشيوخ الخليج في إنقاذ (شرطي أمريكا والصهاينة في المنطقة) ورحل (الشاهنشاه -أو ملك الملوك) وسقط (العلم الصهيوني) من سماء طهران وارتفع مكانه علم فلسطين، ومبنى ( السفارة الصهيونية) أصبح مقرا لسفارة دولة فلسطين، وكانت إيران بهذه الخطوة قد منحت ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لقب سفير، واعتبرت المنظمة بمثابة دولة قبل أن يعلن الرئيس الشهيد ياسر عرفات قيام دولة فلسطين في المنفى بتسع سنوات، وبمناسبة مرور شهر على انتصار الثورة الإيرانية كان الرئيس عرفات في زيارة للإمام الخميني في طهران ليسمع ويسمع العالم خطاب الإمام الخميني في طهران، وبالمناسبة وأمام جماهير الشعب الإيراني ألقى الإمام الخميني وبجواره وقف الرئيس عرفات خطابا قال فيه وهو يتحدث عن أحوال المنطقة والعالم وتحديدا القضية العربية الفلسطينية (سأقف خلف المدفع الفلسطيني ولو تخلى عنه ياسر عرفات)..
فأصيب ( النظام السعودي) وحلفاؤه بالجنون، فحاكوا مؤامرة الحرب القذرة بين العراق وإيران، تلك الحرب التي وصفها مستشار الأمن القومي الأمريكي (بريجنيسكي) بأنها جاءت لتلبية نظرية ( الاحتواء المزدوج) وهي نظرية غايتها تدمير قدرات العراق وإيران معا والتخلص من قدراتهما ونفوذهما وتقدمهما الحضاري والتنموي بكل جوانبه، وبالتالي التخلص من النظامين وطموحاتهما في تطوير بلديهما تأمينا لحلفاء أمريكا في المنطقة، .. ودفع نظام آل سعود وأنظمة الخليج مبالغ خيالية لإشعال تلك الحرب وإطالة أمدها وإنهاك العراق وإيران بحرب تفقدهما القدرة على تحقيق أهدافهما وصناعة تقدمهما خدمة (للعدو الصهيوني) الذي لم يتردد في ضرب المفاعل( النووي العراقي) والعراق في ذروة الحرب والمواجهة مع إيران، والنظام السعودي وأنظمة الخليج والصهاينة والأمريكان وكل عواصم الاستعمار مستأنسون بتلك الحرب ويغذونها بكل ممكنات ومتطلبات الاستمرار، ولم يكن نظام آل سعود يدعم العراق في تلك الحرب حبا بالعراق والعروبة، بل كان يدعمها تلبية لرغبة واشنطن ورغبة من نظام آل سعود في تدمير البلدين الإيراني والعراقي وتدمير قدراتهما، كما زادت العلاقة بين إيران والثورة العربية الفلسطينية غضب وحقد نظام آل سعود على الثورة الفلسطينية وعلى القضية والشعب الفلسطيني .!
بعد ثمان سنوات وبعد سقوط مليوني ضحية في الحرب العراقية -الإيرانية، وإهدار طاقات وقدرات البلدين، أخفق المخطط الأمريكي في تحقيق أهدافه، وكما اعترف الأمريكان لاحقا.. ليستبدلوا نظريتهم (الاحتواء المزدوج) بنظرية أخرى تتماهى معها ولكنها هذه المرة ذات أبعاد أكثر خطورة وهي (الصراع السني / الشيعي)..!
وهي نظرية برزت أهميتها بعد ( الغزو العراقي) للكويت الذي بدوره جاء وفق مخطط أمريكي سوف نتناول تفاصيله في تناولة أخرى، لكن تبعات ذلك (الغزو) تركت أثرها بالوعي الجمعي العربي وانقسم الوعي العربي من ذلك (الغزو) ليأخذ مفاهيم وأبعاداً فكرية أوجدت فجوة في العلاقات العربية -العربية باتجاه يقلق المصالح الأمريكية -الصهيونية في الوطن العربي، فكان لا بد من تجاوز تأثيرات ما خلفته (حرب الخليج الثانية) التي وإن عملت على (تشطير الوعي العربي) غير أنها جعلت فلسطين تعود للذاكرة الجمعية العربية وإن في نطاق أحد (الشطرين) ودور مؤتمر (مدريد للسلام) والتعهدات التي أطلقت، فكانت أمريكا وحلفاؤها بحاجة لقضية ينشغل بها الرأي العام العربي وتبعده عن التركيز والاهتمام بفلسطين وقضيتها، وبتعهدات واشنطن التي قطعتها للأنظمة التي شاركتها الحرب على العراق، ومن أجل رفع الحرج عن نظام آل سعود، الذي حشد ضد العراق وإيران وتعهد بحل القضية الفلسطينية، وهو ما لم يتحقق من خلال (مؤتمر مدريد) الذي كان بمثابة مؤامرة ضد العرب افشلتها (سوريا حافظ الأسد)، وأدرك (أبو عمار) حقيقة مؤامرة (مدريد) وهو الذي كان يردد دائما منذ (الغزو الصهيوني) لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية إلى بلدان الشتات (أريد أن احصل على كيلو متر مربع داخل وطني فلسطين لنخوض نضالنا منه ونحرر بلادنا)، فذهب إلى (أوسلو) مجبرا لا بطلا وهو من وصف (أوسلو بالفخ)..
أقول بعد كل هذه التداعيات الدرامية تم ابتكار ومن ثم محاولة ترسيخ فكرة الصراع (السني /الشيعي) باعتبارها الوسيلة المثلى التي وجهت ضد (إيران) في محاولة استعمارية -رجعية -لإبعادها وتطويق دورها في المنطقة، خاصة دورها تجاه الثورة الفلسطينية والمقاومة، بعد أن تم احتواء العراق وتطويعه وإحكام الحصار والعقوبات عليه وحصر سلطة الدولة العراقية في 14 محافظة وتشجيع (الانفصاليين الأكراد) في السيطرة على مناطق نفوذهم..!
وبهذا الحال تكون (واشنطن) وحلفاؤها العرب وفي المقدمة (نظام آل سعود والصهاينة) قد حققوا ما لم تحققه سنوات الحرب بين العراق وإيران..!
ومع ذلك وحتى تتحقق فعليا وواقعيا استراتيجية فكرة (الصراع الشيعي / السني) تم غزو العراق بذرائع كاذبة ومبررات زائفة، ومن منا لا يتذكر خطاب وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) في مجلس الأمن الدولي في 5 فبراير 2003م وهو يرفع يده حاملا (أنبوبة قيل إنها لسلاح الجمرة الخبيثة وان عدة جرامات منها تكفي لإبادة سكان مدينة بكاملها)، فكانت أكبر كذبة اعترف لاحقا صاحب الخطاب نفسه بأن مخابرات بلاده خدعته ولكن بعد ماذا..؟!
كان نظام آل سعود أكثر المتحمسين لغزو العراق وإسقاط نظامه على أمل أن يزيح من أمامه ورغبته في النفوذ والسيطرة نظاماً قومياً كان رغم كل جراحاته وأخطائه مهتماً بالقضية الفلسطينية، هذا من ناحية، ومن الأخرى الرغبة الاستعمارية الرجعية في إحلال محل النظام القومي مجاميع أخرى تحمل في ذاتها رغبات الثأر والانتقام أكثر مما تحمل من المشاريع الوطنية تنموية أو ديمقراطية ناهيكم عن أن غالبيتها كانت مجرد أدوات لأجهزة الاستخبارات العربية والغربية والأمريكية، فتم الاحتلال وتفكيك الجيش العراقي وأجهزة الأمن وإحلال مجاميع مسلحة وخلق صراعات طائفية في أوساط المجتمع العراقي انطلاقا من الفسيفساء الاجتماعية العراقية، وإيجاد جماعات متطرفة مثل (جماعة ابو مصعب الزرقاوي، والقاعدة، وتنظيم الدولة، والبغدادي، وصولا لداعش) وكل هذه الجماعات كانت أدوات أمريكا ومخابرات النظام السعودي، اللذين اعتمدا وراهنا على دور هذه الجماعات الإرهابية في ترسيخ فكرة (الصراع _السني _الشيعي) إنطلاقا من العراق وعلى أمل أن يمتد هذا الصراع إلى بقية أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي..!
ومع جنونية وإجرامية هذا المخطط إلا أنه لم يحقق أهدافه وخابت أمريكا ونظام آل سعود بفضل وعي قوى وطنية عراقية وبفضل حكمة إيران أيضا، لكن الدور الأكبر لعبته (دمشق) التي أسقطت مخطط أمريكا وحلفائها واسقطت مؤامرة الصراع (السني / الشيعي)..!!
فكان البديل لكل هذه المخططات هو حرب 2006م التي قام بها الكيان الصهيوني ضد المقاومة في لبنان ولم تكن المقاومة سوى الهدف العابر للوصول لرأس (الشر) بنظر أمريكا والصهاينة ونظام آل سعود ورأس الشر هذا بنظرهم كان (دمشق) ونظامها ودورها المحوري والجيوسياسي في المنطقة، والأهم كان الضغط على دمشق وإبعادها عن المقاومة في لبنان وفلسطين، وأيضا إبعادها عن (طهران) ‘فكان عدوان 2006م خطوة أولى باتجاه تطويق (دمشق) والحجر الأساس في بناء( شرق أوسط جديد) على الطريقة الأمريكية ..!
يتبع …