في هذه المساحة آثرت اليوم الشروع في تقريب صورة الآخر وبيان مستوى تفكيره حتى نكون على وعي بمستوى تفكيره وكيف يتعامل مع العرب والمسلمين؟, دعونا نبدأ من مؤسسة راند التي أصدرت تقريراً عام 2007م يحمل عنوان تكوين (شبكات إسلامية معتدلة)، امتاز هذا التقرير عن التقارير السابقة بأنه موجَّه بطريقة واضحة إلى الحرب العَقَدِيَّة أو الفكريَّة – حسب التعبير الغربي-، وبالتالي فهو لا يحارب الإرهاب المتمثِّل في تنظيم القاعدة أو ما يشابهه، بل يتوجه إلى المسلمين كافة .
«إن الصراع الموجود حالياً في معظم أنحاء العالم الإسلامي عبارة عن حرب للأفكار، وسوف تحدد نتائج هذه الحروب التوجهات المستقبلية للعالم الإسلامي وما إذا كان خطر المجاهدين الإرهابيين سوف يستمر مع عودة بعض المجتمعات الإسلامية إلى أبعد أنماط التعصب والعنف.
وهذه الحرب لها تأثير عميق على أمن الدول الغربية، وعلى الرغم من أن الإسلاميين المتطرفين يعتبرون قلة في كل مكان إلا أنهم يحظون بالتفوق في العديد من المناطق.
ويكمن السبب وراء ذلك بدرجة كبيرة إلى أنهم قاموا بتطوير شبكات شاملة تغطي العالم الإسلامي وتتجاوزه في بعض الأحيان إلى المجتمعات الإسلامية في أمريكا الشمالية وأوروبا، أما المسلمون المعتدلون والليبراليون – رغم أنهم أكثرية في العالم الإسلامي – فإنهم لم يُنشئوا شبكات مماثلة، ويمكن لشبكات ومؤسسات المسلمين المعتدلين أن تعمل على توفير منبر لتقوية رسالة المعتدلين إضافة إلى كونها تشكل قدراً من الحماية ضد العنف والإرهاب.
«وعلى الرغم من ذلك نجد أن المعتدلين ليست لديهم الموارد اللازمة لإنشاء تلك الشبكات بأنفسهم؛ حيث أنها قد تتطلب مساعدات خارجية، ومع خبرة الولايات المتحدة الكبيرة التي يعود تاريخها إلى المساعي التي بذلتها أثناء الحرب الباردة لدعم شبكات الأشخاص الملتزمين بالأفكار الحرة والديمقراطية؛ فإن للولايات المتحدة دوراً حاسماً يمكنها أن تلعبه لتهيئة الساحة للمعتدلين.» تقرير راند.
«وما نحتاجه في هذه المرحلة هو استخلاص الدروس من تجربة الحرب الباردة ومدى ملاءمتها لوضع العالم الإسلامي الراهن وتقييم فاعلية برامج التزام الحكومة الأمريكية مع العالم الإسلامي وتوفير خارطة طريق لتشييد شبكات للمسلمين الليبراليين والمعتدلين وهذا ما تهدف إليه هذه الدراسة»، تقرير راند.
وبدت الولايات المتحدة في كل هذه المساعي كالمؤسسة البحثية؛ حيث قامت بتقييم كل المشاريع والأفكار لتحديد ما إذا كانت تخدم مصالح الولايات المتحدة، وقامت بدعمها ماديًّا، ثم اتبعت توجهًا يقوم على عدم التدخل، وتركت هذه المنظمات والهيئات لإدارة نفسها وتحقيق أهداف الولايات المتحدة دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة، ومثلما هو الحال مع أي مؤسسة وضعت الحكومة الأمريكية خطوطًا إرشادية بشأن كيفية إنفاق الأموال – إلا أنه بصورة عامة أدرك المسؤولون الأمريكيون أنه كلما ابتعدت المسافة بين حكومتهم وبين المؤسسات التي ترعاها؛ كلما زادت احتمالات نجاح أنشطة هذه المنظمات.
أما اليوم؛ فتواجه الولايات المتحدة تحديات جسيمة في إنشاء شبكات ديمقراطية في العالم الإسلامي، مثلها مثل التحديات التي اعترضت صانعي السياسة عند بداية الحرب الباردة، وعلى رأسها ثلاثة تحديات — حسب رؤاهم طبعا -:
الأول: انه في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات ثار جدل بين واضعي السياسات الأمريكية حول ما إذا كانت جهودهم لبناء الشبكات ينبغي أن تحمل طابعًا هجوميًّا أم دفاعيًّا؟، وذلك لأن البعض قد رأى أنه يتحتم على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية هجومية للقضاء على الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، من خلال دعم الجماعات التي تريد الإطاحة بالحكومات الشيوعية سواء في السرِّ أو في العلن، بينما رأى البعض أن تنتهج الولايات المتحدة استراتيجية دفاعية ترمي لتدمير الحكم الشيوعي بشرق أوروبا والاتحاد السوفيتي، عن طريق تقديم الدعم – سرًّا أو علنًا – للجماعات القائمة داخل هذه الدول، والساعية بنشاط نحو الإطاحة بالحكومات الشيوعية، بينما آمن البعض الآخر بأنه من الضروري اتباع استراتيجية ذات طابع دفاعي أكبر، تركز على احتواء التهديد السوفيتي، عبر تعزيز القوى الديمقراطية في غرب أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكانت اليد العليا في الجزء الأكبر للاستراتيجية الدفاعية.
وسعت واشنطن أيضًا لتحويل مسار تدفق الأفكار إلى الطريق المعاكس، فبدلاً من تدفق الأفكار الشيوعية على الغرب عبر الاتحاد السوفيتي ومنظماته، تمكنت الأفكار الديمقراطية من اختراق الستار الحديدي من خلال المنشآت الإعلامية المنشأة حديثًا- اليوم يتم التدفق الإعلامي عبر التطبيقات – .
أما التحدي الثاني الذي واجهه صناع السياسة الأمريكية إبان الحرب الباردة فتمثل في الـحفاظ على مصداقية الجماعات التي تساندها الولايات المتحدة؛ حيث حاول منظمو الجهود الأمريكية لبناء الشبكات الحد بأقصى درجة ممكنة من كل المخاطر التي قد تتعرض لها الجماعات، عن طريق تحجيم المسافة بين هذه الجماعات وحكومة الولايات المتحدة، واختيار أفراد بارزين يتمتعون بقدر كبير من المصداقية لتولي مناصب قيادية في الشبكات، ويذكر أن الولايات المتحدة قد ساندت أنشطة إنشاء الشبكات التي قامت بها منظمات مستقلة مثل الاتحاد الأمريكي للعمال.
أما التحدي الثالث الذي كان يواجه صناع السياسة الأمريكية فهو تحديد مدى اتساع التحالف المناهض للشيوعية؛ فعلى سبيل المثال: هل ينبغي أن يضم الاشتراكيين الذين انقلبوا ضد الشيوعية وما زالوا ينتقدون بعض جوانب السياسة الأمريكية؟ ولكن في النهاية قررت الولايات المتحدة أن التحالف من الممكن أن يضم أي شخص، طالما أنه ملتزم بمبادئ محددة أساسية؛ فعلى سبيل المثال: كانت طريقة الحصول على بطاقة عضوية مؤسسة الحرية الثقافية هي الموافقة بالإجماع على معارضة النظم الشمولية.
ويسمح بالاختلاف مع سياسات الولايات المتحدة – وقد تم تشجيع ذلك – لأن ذلك ساعد في ترسيخ مصداقية واستقلالية المنظمات المدعومة.
وبصورة عامة؛ هناك ثلاثة جوانب واسعة للمقارنة بين بيئة الحرب الباردة والبيئة الراهنة:
أولا: واجهت واشنطن في أواخر الأربعينيات كما تواجه اليوم بيئة (جيو/سياسية) جديدة ومحيرة، تنطوي على تهديدات أمنية جديدة؛ ففي بداية الحرب الباردة تمثل التهديد في الحركة الشيوعية العالمية التي قادها الاتحاد السوفيتي المسلح نوويًّا، أما اليوم فيتركز هذا التهديد في حركة جهادية عالمية تشن هجمات إرهابية ضد الغرب، وتسقط أعدادًا ضخمة من الضحايا.
ثانيًا: مثلما هو الحال في الأربعينيات؛ شهدنا إنشاء كيانات بيروقراطية كبيرة وجديدة تابعة للحكومة الأمريكية، بهدف التصدي لهذه التهديدات.
والأخير والأهم في هذا الموضوع: أنه في بدايات الحرب الباردة ساد الإدراك بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يخوضون صراعًا أيديولوجيًّا؛ فمن جانبهم أدرك صانعو السياسات جيدًا أن هذا الصراع سيجري خوضه على مستويات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ونفسية، أما اليوم – وكما اعترفت وزارة الدفاع في تقريرها الربع سنوي -فإن الولايات المتحدة تقود حربًا على الصعيدين الحربي والفكري، – فهي تقود معركة بالأسلحة ومعركة بالأفكار؛ حيث لن تكون الغَلَبَة على الجانب الآخر إلا بتشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها .
لعل الصورة التي حاولت تقريبها اتضحت ,علما أن ما ورد كان مقتبسا وليس أصيلا لي ودوري لم يتجاوز دور الراوي .