أبناء جبن يضربون أروع الأمثلة في حبهم لتاريخهم بانتفاضة شعبية كبرى لترميمها والحفاظ عليها
المدرسة المنصورية العامرية في مدينة جبن .. إحدى روائع الفن المعماري اليمني الأصيل
تكاتف شعبي لا مثيل له من أحفاد الملوك بمدينة جبن .. والتبرعات تنقذ المدرسة المنصورية من الاندثار
الثورة/نقل الصورة /عادل الطشي
تعتبر المدرسة المنصورية العامرية في مدينة جبن واحدة من أبرز المعالم الأثرية التاريخية الإسلامية المتواجدة على أرضنا اليمنية المباركة ..
آمر ببنائها السلطان عبدالوهاب بن داوود بن طاهر بن تاج الدين بن معوضة عام 882 هجرية و تم الانتهاء من بنائها في 887 هـ بعد عمل شاق ومضن استمر خمس سنوات لتكون تحفة فنية معمارية إسلامية تزين مقر عاصمة الدولة الطاهرية ولتكون مقرا للحكم فيها بمدينة جبن ..
وتعد المدرسة المنصورية أعجوبة معمارية منفردة تمتاز ببذخ النقوش والزخارف وتمثل تحفة فنية غاية في الإبداع ..
تشعر عند زيارتك لها بأنفاس البنائين والنحاتين والمزخرفين وكأنهم تركوا أرواحهم تحرس ما أبدعته لمساتهم وإتقانهم في كل التفاصيل التي تبهر الناظرين ..
ومع مرور الزمن كادت عوامل التعرية أن تنال منها وتدخلها خانة التراث اليمني المنهار، لكن عزيمة الرجال من أبناء مدينة جبن من يستحقون أن نطلق عليهم لقب أحفاد الملوك كانت بالمرصاد لعوامل الزمن وتصدت لها بكل وطينة فتكاتفت الجهود من كل المخلصين الذين كانوا رجالا عند الشدة وأظهروا معدنهم الأصيل بتحملهم مسؤولية إنقاد المدرسة المنصورية العامرية من الاندثار والدمار من خلال لجنة مجتمعية مشتركة في أمريكا تقوم بجمع التبرعات لتسلَّم إلى جمعية جبن الخيرية التي بدورها تسلمها إلى منظمة الأيادي النقية لتقوم بتحويلها إلى فرعها في صنعاء ومن ثم تودع في حساب المدرسة المنصورية لتتولى جمعية جبن التنموية مهمة التنفيذ المالي والإداري، فيما تولت الهيئة العامة للآثار الإشراف على الجوانب الفنية ..
فظهرت الوطنية الحقة في تكاتف كل أبناء المنطقة عبر فتح باب التبرع لصيانة وترميم وإعادة الحياة إلى شرايين المدرسة المنصورية العامرية التي قضى الكثيرون منهم حياته فيها .. فتجلت أروع صور الوطنية والمسؤولية من خلال المبادرات الطوعية للتبرع كل بما تجود به نفسه حتى الوصول إلى المبلغ المطلوب لتبدأ عملية وضع اللبنة الأولى في إعادة الحياة إلى تفاصيلها عبر لجنة مشروع ترميمها التي يرأسها ابن مدينة جبن ناصر الدرة – مدير المشاريع بجمعية جبن التنموية – الذي حمل على عاتقه قيادة سفينة مشروع الترميم مستفيدا من ماضيه الذي قضاه كله في أروقة المدرسة المنصورية العامرية والتي جعلت منه خبيرا تاريخيا ملما بكل تفاصيلها وعلى دراية كاملة بدهاليزها ومطلعا على كل رموزها التاريخية وصار يحاكي كل أجزاء المبنى مكونا نظرة تاريخية شاملة لكل ما تحتويه، والتي للأسف الشديد يجهلها كل أبناء اليمن بسبب الإهمال الإعلامي لها، إذ كان على الإعلام أن يجعلها في مقدمة اهتماماته لنقل الصورة الحقيقية لمعلم يعد من أبرز معالم الحضارة اليمنية في حقبة الدولة الطاهرية وما قدمته لليمن من آثار وشواهد تدل على عظمة الإنسان اليمني على مر العصور شأنها شأن الكثير من الموروث اليمني التاريخي المنتشر في كل بقعة من أرضنا الطاهرة ..
التقينا بالأخ ناصر الدرة وتجولنا معه في كل أرجاء المدرسة المنصورية العامرية واستمعنا منه إلى معلومات تاريخية لأول مرة نتعرف عليها، فنقلناها لكم في السطور القادمة ونرجو أن يتحقق المراد بطرح هذا المعلم التاريخي الأثري اليمني الإسلامي على طاولة الإعلام اليمني بكافة فئاته لكي تنال نصيبها من الاهتمام وتقديمها للعالم أجمع ..
إبداع الأجداد ..يسافر بنا عبر الزمن
ضخامة المبنى بأدواره الثلاثة والقباب والمنارة والميضاء الصعدة والشماسي وأعمدة الرخام ذات السحر الخاص بها والتي بمجرد ان تلمسها وتشعر ببرودتها تسافر روحك عبر الأزمنة لتعود إلى ما قبل الإسلام، وتتخيل مدى الإبداع والإتقان الذي وصل إليه أجدادنا ..
ازدحام التفاصيل وكثرتها في المدرسة المنصورية ستشعرك بالذهول خاصة بيت الصلاة بأبوابه السبعة ومشربياته في الناحية الشمالية وزخارف القباب والكتابات الجصية والمحراب- وما أدراك ما المحراب!!- فقد جعل غاية في الجمال والإبداع وكأنه سيمفونية رائعة بتنسيق مذهل وتداخل في التصاميم وتجانس في التراكيب، وأنت تتقدم لتدخل تجويف المحراب تشعر بالرهبة والدهشة وتحس بإشعاع روحي يتسلل إلى أعماق روحك، وعندما ترفع يديك بالتكبير يتجلجل صوتك بصدى داخل المحراب لتهتز أوتار قلبك الإيمانية، وبنظرة إلى الواجهة الشمالية وما بها من زخارف وأختام سليمانية تدهشك تلك المربعات والدوائر والمثلثات التي كونت لوحة جدارية غاية في الإبهار والإبداع .
تفاصيل الشماسي وأعمدته الثمانية بكؤوسها وتيجانها ومشرنفاتها المكررة بنيت بإبداع وتناسق لتحيط بالشماسي من جهاته الأربعة وكأنها تيجان تجمّل الصرح بظلالها أثناء حركة الشمس..
المنارة بارتفاعها الشاهق روعي فيها التميز والانفراد فقد تنوع فيها البناء بين الشكل الرباعي إلى الشكل السداسي وأخيرا الدائري ..
كاد يندثر
هذا الكنز العظيم كان قد أوشك على الاندثار فتداعى أبناء مديرية جبن في المهجر والداخل للإسراع في أعمال الترميم وإعادة الحياة إلى روح هذا المعلم التاريخي الإسلامي اليمني العظيم وقد استشعر كل أبناء المديرية ومحبو المدرسة المنصورية واجبهم الوطني والديني والأخلاقي فتم عمل الدراسات الهندسية بواسطة الجهة المعنية “الهيئة العامة للآثار” وتم التوافق بين جمعية جبن التنموية الشريك المنفذ ومنظمة الأيادي النقية وجبن الخيرية وحلقة التواصل بين الداعمين والممولين والهيئة العامة للأثار.. وقد أثمرت كل تلك الجهود والتنسيقات والترتيبات بتنظيم الجهود لتنطلق عجلة أعمال الترميم ليبدأ حلم كل أبناء المديرية في الحفاظ على أهم معلم تاريخي في المديرية والذي يعد معلما تاريخيا يمنيا عربيا إسلاميا بامتياز ..
مدرسة ودار للقضاء
أشار الدرة إلى أنها بنيت لتكون مدرسة لتلقي العلم ولكن ليس العلم الشرعي فقط وإنما ما تسمى بعلوم الكيمياء وعلوم الفلك واللغة العربية والتربية الإسلامية بكل فروعها وأنها كانت أيضا دار قضاء للتقاضي بين الناس ..
المدرسة المنصورية استمرت فترة طويلة وأجيال متعددة تتلقى مختلف فنون العلوم فيها، فكان يأتي طلاب العلم للالتحاق بها من العراق والمغرب ومصر وأي طالب يلتحق بها ويتلقى أي علم من العلوم فيها يطلق عليه لقب “الجبني” .. فلان بن فلان الدمشقي الجبني .. والحرازي الجبني .. وهكذا، أي أنه ينسب إلى المدرسة التي تعلم فيها ..
القرآن بالسند إلى رسول الله
وأوضح الدرة في سياق حديثه أنه في القرن الثامن الهجري انقطع سند الاتصال إلى النبي صلى الله وعليه وآله وسلم في قراءة القرآن الكريم في العالم الإسلامي بكله إلا في المدرسة المنصورية وكان ذلك على يد إبراهيم بن أحمد الحرازي الجبني الذي كان الوحيد الذي لديه السند بالقراءة التي تمتد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ..
حضارات ثلاث
مؤكدا أنها تعتبر تحفة معمارية متميزة وفريدة من نوعها، حيث تداخلت فيها ثلاث مدارس إنشائية هي: النمط المملوكي الموجود في مصر والنمط الأندلسي والنمط المغولي، والتي جاءت نتاجا طبيعيا بعد الاطلاع على تاريخ الحضارات الثلاث فتمت الاستفادة من أشياء كثيرة كانت تميز تلك الحضارات لتخرج لنا الدولة الطاهرية بهذا الرمز التاريخي الأثري الإسلامي الذي جمع فنيات وجماليات تلك الحضارات في مبنى واحد، فجعلت منها تحفة الزمان مترجمة عظمة وروعة ابن اليمن الإنسان الذي لم يكتف بالاعتماد على تلك الحضارات الثلاث لتشييد هذا المعلم اليماني الشامخ عبر الزمن كشموخ جبال وقلاع وحصون مدينة الملوك ..
الأعمدة الرخامية
ونلاحظ أن عبقرية الإنسان اليمني آنذاك تجاوزت حدود الزمان لتصل إلى الاستفادة من اثار الدولة السبئية القديمة من خلال الأعمدة الرخامية التي تم نقلها من المعابد القديمة لمملكة سبأ لتزين جدران صحن المدرسة والتي بدورها تتولى مهمة استقبال الزائرين للمدرسة كفاتحة تاريخية عند الولوج من بابها الرئيسي لتسحر العقول وتسلب الألباب بروعتها وجمالها ودقة النقوش الزخرفية الموجودة فيها والتي تحكي تاريخا يمانيا أصيلا، وتتولى أيضا الإجابة على كل التساؤلات حول اصلها وجنسيتها وعمرها الذي يصل إلى 3500 سنة لتحكي تفاصيل استخدام الدولة الطاهرية لها بكل جمال وإبداع لتزيين هذا المعلم التاريخي ..فنجد الإجابة على لسان الأخ ناصر الدرة الذي قدم لنا معلومة تاريخية نسمعها لأول مرة والتي فسرت العمر الحقيقي لها بقوله :
هذه الأعمدة الرخامية ليست طاهرية وانما تعود إلى العصر السبئي، وقد يتساءل الكثيرون: كيف عرفنا أنها سبئية؟
الإجابة على هذا السؤال نعرفه من عمرها الذي يمتد إلى حوالي 3500 سنة، حيث وجدنا في إحدها نقش سلسلة وفي أسفلها نقش جرس، ومن هنا كشفنا عمرها لأنه لا يوجد في الحضارة الإسلامية أجراس ما يثبت أنها من أعمدة المعابد القديمة للدولة السبئية..
مسميات خاصة
منوها بأن العمارة الإسلامية تتميز بوجود اسم خاص لكل شيء فيها، وقد تميزت مكونات المدرسة المنصورية العامرية بتنوع كل جزء فيها مع مسماه الخاص فنجد الرواق الموجود عند باب المصلى الرئيسي من جهة الصحن الذي يحاط بمجموعة من الأعمدة الرخامية المرصوصة بهذه الطريقة المحيطة به من جميع الجهات تسمى البائكة ونرى في أعلى سقف الصحن ما يسمى بالمشرنفات وعلى يمين وشمال الداخل من باب الصرح إلى الصحن نجد ما يسمى بالمكاتب أو القلة، ونجد الرواقين الشرقي والغربي يحيطان ببيت الصلاة ..
كما نلاحظ في المدرسة المنصورية أن كمية الإضاءة فيها كبيرة جدا لوجود نوافذ كبيرة في جوانبها تسمح بدخول الضوء والهواء بكمية كبيرة ما يدفعك للإحساس بأنها مكيفة وهي في الأصل ليس فيها أي تكييف وإنما يحدث تلطيف الهواء بفعل تلك النوافذ المتقابلة شرقيا وغربيا ..
فالصرح مفتوح من كل الجهات ويكون قبل البوابة الرئيسية للدخول إلى صحن المسجد الذي يكون مغلقا من ثلاث جهات ومفتوحا من جهة الصرح للدخول والخروج ..
منارة بديعة .. والمقرنصات تكشف أسرار تكوين المبنى
وعند النظر إلى المنارة نجد فيها لمسات معمارية بديعة و فنية قلما نجد نظيرا لها، وليس أي شيء موجود فيها وجد اعتباطا بل لهدف معين، فنجد المقرنصات وما ترمز إليه وهو ما يجهله الكثيرون ..
فالمنارة التي تحمل مقرنصة واحدة دليل على أن هذا المسجد للصلاة ..وإذا وجدت الثانية فهذا المسجد للصلاة ومدرسة .. وإذا شاهدت المقرنصة الثالثة فهذا المسجد للصلاة ومدرسة ودار للقضاء .. وإذا وجدت المقرنصة الرابعة فهذا يعني أنها دار ا للسلطان أيضا ..وإذا وجدت الخامسة فهي مكان لصلاة الجمعة ..
هذا كل ما يخص الجزء الخارجي من المدرسة .. والآن سندخل إلى بيت الصلاة لمشاهدة ما يحتوي من نقوش إبداعية وتاريخ عريق جعلت منه مفخرة تاريخية يمنية إسلامية ..
عند الدخول من البوابة الرئيسية إلى بيت الصلاة يستقبلك العمود الموجود على يسارك والذي يحمل اسم المدرسة واسم بانيها السلطان المنصور عبد الوهاب بن داوود عز نصره .. هذه الجملة التي نجدها في كل كتابات تاريخ الدولة المملوكية والتي تكتب بنمط الخط المملوكي، وهذا يقودنا لاكتشاف وجود ثلاثة أنواع من الخطوط هنا في المدرسة المنصورية هي الديواني والثلث والنسخ ..
ومما يبهر العقل أن كتابة الآيات على الجدران لم يتم بشكل اعتباطي، فنجد على سبيل المثال الآيات القرآنية المنحوتة في مكان السجود بالمحراب مثل قوله تعالى “يا أيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون”.