عندما اتفق الليبيون أوائل العام الجاري على المصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية تُوقف الصراع المسلح وتنهي الانقسام بين حكومتي الغرب والشرق الليبي، كانت النخب السياسية التي خبرت حقب الاستبداد وحكم الفرد وأوجاع الحروب الأهلية، قد قطعت شوطا في إنتاج تشريعات انتخابية مطورة ركَّزت للمرة الأولى على تحديد آليات كيفية الحكم في ليبيا، لا على من يحكم ليبيا.
خطوة سياسية متطورة تجاذباتها مراكز قوى الداخل لشهور، وحوَّلتها لعبة المصالح الدولية بعد مؤتمر باريس إلى برنامج عمل ملزم تحت مظلة العقوبات، ما قد يجعل الانتخابات الليبية المقررة في ٢٤ ديسمبر القادم نقطة تحول مفصلية سيما بعد أن فرضت الدول الكبرى المؤثرة في المشهد الليبي خيار المعترك الانتخابي سبيلا وحيدا للوصول إلى الحكم وضمان مشاركة كل الأطراف لتحقيق الاستقرار ووضع نهاية لدورات العنف والانقسامات التي تطحن هذا البلد منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي.الثورة / أبو بكر عبد الله
على مدى عشر سنوات أخفقت الكثير من الرؤى والأجندات الأحادية في إقناع الأطراف الليبية المتصارعة بخيار السلام، وظل البلد في حالة انقسام وصراع مسلح خسر معه الليبيون الكثير، وفاقم من أزماتهم السياسية والأمنية والاقتصادية، كما حول ليبيا إلى ساحة حرب مفتوحة بين جيش منقسم وقوات أجنبية ومرتزقة ومليشيا وتنظيمات إرهابية ومراكز نفوذ انخرطت كلها في معادلة الصراع على الكعكة النفطية.
لكن الضغوط الدولية التي تكللت مؤخرا بمؤتمر باريس، أفرزت مشهدا توافقيا هو الأول من نوعه، بعدما حسمت الدول المشاركة جدل الخلافات والصراعات حول الانتخابات الرئاسية والنيابية التي تقرر تنظيمها يوم 24 ديسمبر المقبل وفق التشريعات الانتخابية المقرة، وبإشراف المفوضية الوطنية العليا للانتخابات التي حصلت على دعم دولي غير مسبوق لإدارة معركة انتخابية يتوقع أن تكون شرسة بعدما تقررت مشاركة كل أطراف الأزمة الليبية بما فيها أنصار النظام السابق الطامح بالعودة للحكم عبر صناديق الانتخاب.
خلافاً لمؤتمرات برلين (1) وبرلين (2) حول ليبيا، استطاع مؤتمر باريس الأخير الذي عقد برعاية فرنسية المانية ايطالية أمريكية وبتمثيل رفيع المستوى وبحضور الأمم المتحدة وروسيا، إنهاء حالة الحرب وحشد جميع الأطراف المتصارعة على طاولة خيار وحيد، هو المشاركة في انتخابات تنافسية رئاسية وبرلمانية ، بعدما تمكنت الدول الراعية للمؤتمر من إزالة العقبات الصلدة، بإعلان دعمها للتشريعات النافذة ودعم المفوضية الوطنية للانتخابات لإدارة هذا الاستحقاق في أجواء من الحرية والنزاهة والتنافس والشفافية مع الإبقاء على مجلس النواب السابق لحين إعلان النتائج لتلافي الوقوع في الفراغ.
موقف الدول المشاركة في مؤتمر باريس لم يكن جديدا على كل حال، إذ أنه تطابق تماما مع مواقف سابقة أعلنتها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، بضرورة تنظيم الانتخابات وتوفير القاعدة القانونية والدستورية لها، كأول خطوة في مسار التسوية السياسية بما يجعل الملفات الأخرى على رأس مهام الحكومة المنتخبة.
والفارق الوحيد بينه والرؤى الأممية، أنه وضع جميع أطراف الصراع الليبي أفرادا وكيانات داخل ليبيا أو خارجها بما فيها المسيطرة على الأرض والتي خارج معادلة الصراع، تحت طائلة العقوبات الدولية حال ضلوعها في عرقلة الانتخابات، بما في ذلك إدراجها ضمن قوائم لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة.
هذه الخطوة التي أفصحت عن فهم الأطراف الليبية والدولية لديناميات الواقع السياسي الليبي، وكان لها أثر واضح في ترحيب الشارع الليبي واستجابة جميع الأطراف لهذه الخطة كما أقفلت الباب أمام تجاذبات كسب النقاط التي ظلت تعرقل المضي نحو الانتخابات منذ قرار وقف إطلاق النار نهاية العام الماضي، بمطالب وإجراءات شكلية لم تخف أهدافها في محاولة تفصيل تشريعات، تضمن لأطراف معينة الاستحواذ على السلطة دون قاعدة شعبية أو شرعية انتخابية.
غير أن الرؤية المقرة في مؤتمر باريس والتي شرع الليبيون في تنفيذها بصورة فاقت التوقعات لم تكن مجانية، فالأوروبيون المؤثرون في المشهد الليبي تحديدا، ينظرون إلى ليبيا بكونها من اهم دول شرق المتوسط المرشحة لأن تكون المزود الأول لأوروبا بالنفط والغاز، كما ينظرون اليها باعتبارها الحصان الرابح في صراع دول القارة العجوز مع نفوذ الغاز الروسي.
مرحلة جديدة
لا خلاف بين الليبيين على أن خطوة تنظيم الانتخابات بمشاركة جميع الأطراف ستنقل ليبيا إلى مرحلة جديدة، يمكن أن تتغربل فيها الكيانات المتصارعة في حكومة وطنية منتخبة تمتلك الشرعية لإدارة الملفات الليبية المعقدة وفي المقدمة إعادة توحيد مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والتأسيس لتوافقات الضرورة في كثير من الملفات الخلافية وفي المقدمة ملف التواجد غير الشرعي للقوات الأجنبية والمرتزقة والكيانات الإرهابية الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه فاقم الأزمة الليبية وجر الليبيين لدوامة صراع مسلح وحمامات دم خسر فيها الليبيون الكثير ولم يعد استمرارها في مصلحة أي طرف.
وحتى وقت قريب كان غياب الإطار القانوني للانتخابات من أهم التحديات التي واجهت المكونات الليبية المتصارعة غير أن تفاعلات العامين الأخيرين، أفلحت في تجاوز هذا الإشكالية بإنتاج تشريعات أغلق الباب على طموحات السيطرة بالقوة، وقلّص إلى حدٍ كبير إمكانية عودة الأطراف المتصارعة إلى خيار الحرب، زاد من ذلك تعهدات الأطراف المتصارعة سابقا بالعمل مع السلطة التنفيذية المنتخبة فور تشكلها، أيا كانت الطرف المهيمن عليها.
ولا خلاف بأن الشعب الليبي ونخبه السياسية قد سئموا الفوضى والحروب وغياب الدولة، والصراع المفتوح على الموارد، ولديهم اليوم من المبررات ما يكفي لاختيار الحلبة السياسية سبيلا وحيدا لتحقيق طموحاتهم في الحكم بعيدا عن لعلعة الرصاص ودوي المدافع.
وطبقا لذلك أيدت أكثر النخب الليبية المضي في إجراء الانتخابات، خصوصا بعد أن حسمت الضغوط الدولية قضية مشاركة أو إقصاء بعض المكونات، وتأكيدها على مشاركة الجميع بل وفرضها على الجميع القبول بنتائجها، أملا في تحقيق انتقال ديموقراطي سلمي وسلس للسلطة تشارك في صياغته جميع الأطراف.
هذا الأمر بدا واضحا في مواقف الأطراف السياسية الليبية بعد مؤتمر باريس، التي خفضت سقف مطالبها وشروطها إلى حد كبير، بما في ذلك موقف رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة الذي ظل متمسكا بموقفه المتصلب المطالب بتأجيل الانتخابات لحين التوافق على التشريعات، قبل أن يرضخ للمطالب الدولية بتنظيم الانتخابات في موعدها، كما بدا أكثر وضوحاً في تصريحات السفير الأمريكي في طرابلس الذي أكد تأييد واشنطن إجراء الانتخابات الليبية دون إقصاء لأي طرف، وكذلك مواقف الأمم المتحدة التي ردت على اعتراضات البعض على تقدم سيف الإسلام القذافي للترشح في الانتخابات الرئاسية رغم ملاحقته من المحكمة الجنائية الدولية، بتأكيد المنظمة الدولية على أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في ليبيا، هي المخولة فقط في قبول أو رفض طلبات المرشحين وفقاً للوائحها.
وهذه المواقف لم تكن مفاجئة، فمنذ مؤتمر برلين بشأن ليبيا والعالم يبحث عن صيغة توافقية يمكن من خلالها تشكيل حكومية منتخبة تمتلك الشرعية والمشروعية لتقوم بدورها في إبرام الاتفاقيات والعقود التي تحافظ على مصالح الدول الكبرى في هذه الدولة الغنية بموارد الطاقة.
الحال كذلك لم يختلف عند الليبيين فأكثر المكونات السياسية والعسكرية التي عركتها حرب السنوات العشر، سئمت الصراع ومفاعيله الداخلية والخارجية، وأكثر ما تطمح اليه هو انتخابات حرة ونزيهة وتشكيل حكومة شرعية يمكنها إعادة الاستقرار لليبيا وإنهاء حالة التمترس الحاصل في الخارطة الليبية بين الشرق والغرب، وإنهاء حالة الانقسام الذي يعصف بمؤسسات الدولة والتي تتجاذبها قوى متصارعة ومصالح خارجية لدول مؤثرة يُعتقد أن لديها وكلاء نافذين في الداخل.
والأهم أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في إعادة إنتاج الخلافات الصغيرة في ظل أوضاع تخرج كل يوم عن السيطرة، في حين أن انتخاب رئيس يمثّل الليبيين وفق النظام الرئاسي الذي ينص عليه الدستور، وانتخاب برلمان يمثل الشعب الليبي، سيجعل من السهل على الليبيين تجاوز جميع التعقيدات الحاصلة وبناء هيكل مؤسسي واحد للدولة يحظى بالإجماع ويمكن أن تتعامل معه الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية.
اما ملف الحرب فقد أثبتت التجارب أن وقفها وإنهاء مسبباتها لا يمكن أن يتحقق دون سلطة سياسية وتنفيذية شرعية، تمتلك القرار وتتحكم بمفاعل القوة، تماما كما هو حال الملفات الملحقة كملف القوات الأجنبية والمرتزقة وإدارة موارد النفط وغيرها من الملفات التي ظلت لسنوات في دائرة التجاذب السياسي بين أطراف تفتقد للشرعية والمشروعية.
وبالمقابل فإن تنظيم الانتخابات وتشكيل حكومة شرعية سيعززان فرص الدولة الليبية في التخلص من القوات الأجنبية والمرتزقة والكيانات المسلحة، وسيمكنانها من بناء جيش ليبي موحد لإدارة ملفات الدفاع والأمن والاستقرار، كما سيمكنان الليبيين من حلحلة نهائية لملف الأسلحة المتراكمة التي أغرقت ليبيا منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، وسيعززان قوتها في مكافحة الجماعات الإرهابية، وإدارة ملف المهاجرين واللاجئين والذي صار من أولويات الأمن في أكثر الدول الأوروبية النافذة في المشهد الليبي.
تحديات معركة الانتخابات
كل معطيات الواقع الليبي اليوم، ترجح أن المعركة الانتخابية لن تختلف عن معارك فرض الوجود التي وسمت المشهد الليبي خلال الفترة الماضية بالقوة القاهرة، فسائر الأطراف الليبية المتصارعة ستخوض المعركة الانتخابية محمولة بأحجامها السياسية الحقيقية، ما يعني أن الانتخابات ستنظم وسط توترات داخلية سياسية وأمنية كبيرة.
ورغم توقيع الأطراف الليبية في أكتوبر الماضي اتفاقا لوقف إطلاق النار كخطوة أولى تعبد الطريق لمفاوضات الحل السياسي، إلا أن التوترات ظلت حاضرة بقوة، مع وجود حكومتين وبرلمانيين وجيشين ومؤسسات منقسمة، وأكثر من ذلك حالة انعدام الثقة لدى الأطراف التي لا تزال لديها مخاوف الانزلاق من جديد إلى دورات عنف جديدة.
ومن ناحية أخرى يصعب اغفال مخاوف تتحدث عن أن الخطوات التي تشهدها الساحة الليبية حاليا بالتحضير للانتخابات بدعم دولي وأممي كبير ليست سوى تنفيذ لروزنامة غربية سعت الدول المتنفذة على المشهد الليبي، لفرضها وتحويلها إلى واقع على الأرض دفاعا عن مصالحها، لا عن مصالح الشعب الليبي، ما سيجعل تنفيذها يمضي وفق هذه الروزنامة، بما سيؤديه ذلك من تعقيد في المشهد السياسي الليبي غير بعيد عن الانزلاق نحو دوامة الصراع والعنف.
يشار في ذلك إلى لوبي شبكات المصالح الذي يحكم ليبيا منذ عقود طويلة، ولا يزال يؤثر حتى اليوم في المشهد الليبي، ولا يتوقع أن يسمح للانتخابات القادمة أن تفضي إلى حكومة قادرة على السيطرة على مفاعيل الشأن الليبي سياسيا واقتصاديا وأمنيا، يضاف إلى ذلك هاجس الشارع الليبي الباحث عن ضمانات تمنحهم التصويت الآمن، مع اعتقاد البعض بأن التشريعات الانتخابية المقرة لا تزال تعاني من مناطق ضعف ولم توفر حدا كافيا من شروط الحرية والنزاهة والتنافس المتكافئ، كما لم توفر ضمانات لتأمين من يدلون بأصواتهم، ما سيجعل المشهد الانتخابي قاتما.
وعلى وجاهة هذه التقديرات، إلا أن استمرار وضع الأزمة الحالي سيقود حتما إلى أزمات أكثر تعقيدا وأكثر حدة، وحتى وإن بقيت مفاعليها ثابتة في ظل اتفاق وقف إطلاق النار كما هو حالها اليوم فذلك لن يفيد أحداً، لا ليبيا ولا المجتمع الدولي ولا الجوار الإقليمي ولا المصالح الدولية التي ستبحث بلا شك عن خيارات أخرى لن تصب في مصلحة الشعب الليبي.
هذا الوضع يجعل الشروع بخطوات تعيد صياغة المشهد السياسي الليبي وفق أسس متوافق عليها، الخيار الأفضل الذي يمكن أن يفتح أمام الليبيين خيارات مرنة قابلة للتحريك عوضاً عن المشهد الانقسامي المسدود.
ويمكن للتجارب القريبة أن تكون دليلا كافيا، فأكثر الأطراف المتصارعة في ليبيا خرجت من رحم الثورة على نظام القذافي، أو أنها عادت من الخارج بعد عقود من الإقصاء والنفي القهري، ومع ذلك وجدنا أنها أخفقت بجولات كثيرة بمحاولاتها إنتاج صيغ توافقية للحكم.
ويصعب إلقاء اللوم على المكونات السياسية الجديدة فذلك أمر له صلة بالثقافة السياسية الراسخة التي أثبتت التجارب صعوبة تطويعها للقبول بالخيارات الناعمة لإحداث التغيير.
ذلك أن حقبة الاستبداد ونظام سلطة الفرد الذي جثم على ليبيا عقودا طويلة، خلَّف تركة ثقيلة ترسخت في الثقافة السياسية لدى الأطراف المتصارعة على الحكم، ولذلك لم تفلح الثورة التي أطاحت بنظام القذافي في بناء دولة مؤسسية تستجيب لمفاعيل الشراكة والديموقراطية والتداول السلمي للسلطة رغم الفرص الكثيرة التي أخفق الليبيون في اقتناصها خلال السنوات الماضية.
هذه التركة ساهمت كثيرا في تغذية المخاوف وجلب الأطراف الخارجية التي عمقت حالة الانقسام في المشهد الليبي والذي تجلى أخيرا في حكومتين وبرلمانيين وجيشين وبنكين مركزيين في ظل احتقان متصاعد، فتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي، ودمر إلى حدٍ كبير عوامل التعايش كما قوَّض استقرار البلد، وحشرها في نفق صراع المصالح، ما جعل المكونات السياسية في حالة عجز كامل عن إيجاد مقاربات سياسية تجنب الشعب الليبي الصراع والانقسام.
كل هذه المعطيات تجعل خيار المضي في الانتخابات مفتاحاً لحل وإعادة صياغة الكثير من الإشكاليات المعقدة في المشهد الليبي بالاستفادة من التوافق التاريخي الذي تحقق فيما يتعلق بالانتخابات وتشريعاتها وحالة التأييد الواسعة لهذا الخيار الذي لن يجد الليبيون فرصة ثانية لتحققه مستقبلا.