صدى كربلاء

أسماء الجرادي

 

 

هناك وقائع في التاريخ لا تنقضي بانقضاء زمانها، ولا تُطوى طيّ الصفحات، بل تبقى كامنةً كالجمر تحت الرماد، تتقد كلما سال دمٌ بغير حق، أو تهاوى صوت مقاوم في وادٍ من الصمت.
تلك هي كربلاء، لا كحادثة، بل كوجعٍ دائم، كوصمة في جبين الإنسانية كلما خانت المظلوم ومالت إلى الظالم.
في كل لحظة يعلو فيها صوت الحق، وفي كل جرح ينزف من خاصرة الأرض، تُولد كربلاء من جديد. وها هي غزة، المحاصَرة المكبّلة، تقف اليوم على أعتاب الذاكرة، تُعيد ترديد صوت الحسين، وتطلق في وجه العالم صدى الحناجر التي رفضت الانحناء.
لم تكن كربلاء نهاية لحياة رجل صالح، بل كانت بدءًا لمسيرة دمعٍ ودمٍ، يتردد صداها من فرات العراق حتى شوارع غزة المدمّاة، كان الحسين يعلم أنه يمضي إلى قدرٍ محتوم، لم يحمل سيفًا من أجل سلطان، ولا خرج طلبًا لملك، بل انطلق يصيح في الأمة أن أفيقي!
ومع ذلك، تخاذلوا، تراجعوا، وتركوه وحيدًا يواجه عارَ السكوت، وموتَ الضمير.
لم يُقتل الحسين فحسب، بل قُتل معه الصدق، واغتيلت الشهامة على يد من باعوا أنفسهم لراحةٍ زائفة. تاه الوعي يومها حين بدأ الناس يلومون الشهيد لا السفّاح، والمصلح لا المجرم. وكأن الخروج على الظلم صار جرمًا، بينما السكوت عنه حكمة ووقار.
واليوم، تُعيد غزة ذات الرواية، ولكن في فصل جديد من الألم. تُحاصر كما حوصر الحسين، وتُخذل كما خُذل. تُدان لأنها قاومت، وتُلام لأنها لم تسجد، يُقصف أطفالها، ثم يُسأل المقاوم: لِمَ لم تصمت؟
تُكرَّر الأسئلة، ولكن بأقنعة جديدة.
أما في اليمن، ذلك البلد الذي حمل في صدره إرث الأنصار، فقد عاد ليحمل السيف لا الكلمات، ووقف في وجه الظلم لا وراء النوافذ. وكذلك في لبنان، والعراق، هناك من لم يبدّلوا المواقف، لأنهم قرأوا درس كربلاء لا في الكتب، بل في الدماء التي سالت، وفي العيون التي رفضت الغضّ عن الجريمة.
لكن الخيانة لها وجوهٌ لا يغيّرها الزمن، فما زال هناك من يلوذ بالصمت، ويبرّر القصف بالحكمة، ويضع اللوم على الضحية كي يغسل يديه من دمها.
يرتدون أثواب العقل، وقلوبهم خواء، يضعون المقاومة في قفص الاتهام، ويتركون المحتل يعيث في الأرض دمارًا.
غزة اليوم مرآة كربلاء، من ينظر جيدًا يراها: عطشًا، وخذلانًا، ومقاومةً يتيمة لا تنتظر الإنصاف بل تصنعه.
فهل مات الحسين؟
لا، بل إنه يتجلى في وجوه الشهداء، في صرخة طفل يطلب ماءً، في قبضة أمّ تودّع ابنها وهي تقول: سر، فداءً لك كلّ ما بقي فينا.
صوت الحسين لم يخفت، بل وجد في غزة مجازًا جديدًا، وامتدادًا لألم لم يُداوَ بعد.
كربلاء لم تُطوَ كصفحة منسية، بل فتحت على مدى العصور كاختبار دائم للضمير. غزة اليوم ليست قضية جغرافيا، بل مرآة لكل ضمير: هل سيسكت؟ هل سيتواطأ؟ أم سيقول كما قال الحسين: «هيهات منا الذلة».
إن ذكر كربلاء ليس طقسًا دينيًا أو بكاءً على ماضٍ، بل صرخة في وجه حاضر يتكرر فيه الخذلان. وإن لم نتعلم من الأمس، فإن الغد سيكون شاهدًا جديدًا على جريمة أخرى.
فلا تجعلوا دم الحسين ماءً، ولا تصمتوا على دماء غزة.
فالصمت جريمة، والخيانة موقف، والركوع مع جماعةٍ صامتة عارٌ لا يغسله زمن.

قد يعجبك ايضا