هي مدينة عامرة, ضاربة جذورها في أعماق التاريخ, بارزة بجلالها في مختلف العصور , ومدرسة من مدارس الإسلام؛ إذ كانت وما زالت من أقدم الهجر العلمية وأشهرها وأوسعها مساحةً وأطولها عمراً تخرج منها الآلاف من العلماء عبر العصور وفي مختلف الأزمنة، وقد لعبت دورا بارزا في تاريخ اليمن منذ قرون .
الموقع
تقع مدينة حوث في الشمال من صنعاء، وتبعد عنها حوالي (119)كم، وهي تتبع إدارياً محافظة عمران, وتبعد عن مركز المحافظة حوالي (81)كم, ويبلغ عدد سكانها 6421 حسب التعداد السكاني لعام 2004م.
نسبة التسمية
سميت “حوث” بهذا الاسم نسبة إلى حوث بن السبع بن صعب بن معاوية بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد، وعُرِف أهله بالحوثان وسكنوا الكوفة.
قال نشوان الحميري في كتابه “شمس العلوم” “حوث بلد باليمن، سُمي بساكنه حوث بن السبيع من همدان من ولده الحوثان بالكوفة، وفي حوث كان مقام نشوان بن سعيد مصنف هذا الكتاب”.
وأنشد:
بشاطئ حوث من ديار بني حربي
لقلبي أشجان معذبة قلبي
[الأكوع, هجر العلم, ج1/ ص491]
حوث قديماً
بحسب العلامة القاسم السراجي كانت ” مدينة “حوث” تنقسم إلى قريتين هما:
1.قرية بني حرب: وهم بنو حرب بن وادعة، ويسكنون جهة الجنوب في جبل عجمر وبه آثار قديمة وخراب الرصاص، ويسكنون في جبل رميض أيضاً، وقد ذكر ذلك الهمداني في “صفة جزيرة العرب” وإليهم بِرْكَة المصكعة الواقعة في الجهة الغربية لمدينة حوث.
2. قرية بني سلامة, ويقال: بنو سلمة، وإليهم ينسب مسجد بني سلمة الشهير كما ذكر ذلك بعض المؤرخين، وكانوا يسكنون جهة الشمال، ويظهر ما يدل على سكناها وقدمها، وإليهم بركة المخابيز وما بجوارها، وكانت تدور الحروب بينهما كما قيل.
ويقال: إن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بنى مسجد الصومعة بين القريتين، وهذا يدل على استمرار القبيلتين بها قروناً كثيرة.
مكانتها التاريخية
لقد احتلَّت مدينة حوث مكانة تاريخية كبيرة فكراً وثقافة وسياسة وأدباً وفضلاً، فهي من المدن العلمية العظيمة والهجر القديمة والمدارس الشهيرة، ودورها العلمي السياسي معلوم في المدن اليمنية.
قال المؤرخ الكبير محمد بن محمد زبارة رحمه الله: “حُوث – بضم الحاء المهملة وبالواو الساكنة والثاء المثلثة- المعروفة ببلاد حاشد على مسافة ثلاثة أيام سيراً على الأقدام من صنعاء”.
وقال المقحفي: “حوث – بضم فسكون- مدينة كبيرة ما بين خَمِر جنوباً وحَرْف سفيان شمالاً”.[المقحفي, معج البلدان اليمنية, ج1/ ص527]
قال عنها القاضي إسماعيل الأكوع: “هجرة عامرة في العصيمات، أحد بطون قبيلة حاشد الأربعة، وتقع في منتصف الطريق بين صعدة شمالاً وصنعاء جنوباً”[الأكوع, هجر العلم, ج1/ ص491]
وتعتبر مدينة حوث من المدن العتيقة التي ظهر تاريخها في القدم، حتى قيل: إن وجودها كمدينة سميت بهذا الاسم منذ ما قبل الإسلام، حيث قال المقحفي: “ويرجع تاريخ مدينة حوث إلى عصور زمنية سحيقة تصل إلى ما قبل التاريخ الهجري وتؤكد على ذلك الشواهد والمآثر المعمارية والنقوش والنحوت المنتشرة في نواحي المدينة وفي قمم الجبال المطلة عليها, ومنها: جبل “رميض” وجبل “عجمر” وفي سفح الأخير تقع خرائب مدينة حوث القديمة”[المقحفي, معجم البلدان اليمنية,ج1/ ص528].
وقد ذكر الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في كتابه الشافي [ج4/ ص230]: “أن النبي بَعَثَ إلى الظاهر وحوث بعامل، وهو الصحابي عامر بن شهر الهمداني”, بينما يتحدث البعض عن قدوم الإمام علي — عليه السلام – إليها وأنه بنى فيها مسجد الشجرة, حيث يقول العلامة القاسم السراجي: “لنقف الآن مع رواية نسمعها عن الآباء، وقد تناقلها الآباء عن الأجداد سماعاً إلى يومنا هذا، ولم أقف على من دونها، وذلك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما خرج إلى اليمن وصل إلى هذه البلدة المباركة – أعني مدينة حوث – فجلس تحت شجرة وأخبر ببناء مسجد جامع للناس لا ينقطع منه العالم والمتعلم إلى يوم القيامة، وقد بُني هذا الجامع المقدس، وسمي بجامع الشجرة”[السراجي, روائع البحوث, ج1/ ص36].
ومما يدل على أن مدينة حوث ترتبط بعصر النبوة, هو أن الحارث الأعور الهمداني صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يُنسب إلى هذه المدينة حيث قال الهمداني: “فمن حوث الحارث الأعور بن عبدالله بن كعب بن أسد بن يخلد بن يعمر بن عمرو بن الحارث بن يمجد بن يخلد بن حوث الفقيه صاحب علي وراويته”[الهمداني, الإكليل, ص8].
ويثبت لنا التاريخ أن الحوثان الذين سكنوا الكوفة هم من حوث .. قال الهمداني: “فأولد السبع السبيع بطن وحوثاً وهو عبدالله بطن وهم الحوثان”[الهمداني, الإكليل، ص8] .. وكذلك قال نشوان الحميري عند ذكره لحوث: “ومن ولده الحوثان بالكوفة”.
ولهذه المكانة التاريخية فقد لعبت مدينة حوث أدواراً على مستوى الساحة اليمنية.
الدور السياسي
كان لمدينة حوث عبر مراحل التاريخ دور مهم وأثر في الحياة السياسية, فكانت لها ولأبنائها مشاركة في صنع القرار السياسي, تكشف عن ذلك عدد من الوقائع منها أن عدداً من الأئمة سكنوا حوث في فترات زمنية واتخذوها منطلقاً لتأمين البلاد وفرض الاستقرار, فيذكر المؤرخون أن الإمام الهادي – عليه السلام – قدم إلى حوث واتخذها مركزاً ومنطلقاً لبث الأمن وتوطيد الاستقرار, وفي سنة (305هـ) دخلها ولده الإمام الناصر واستقر بها, وكذلك الإمام يوسف الداعي بن يحيى بن أحمد بن الإمام الهادي, والذي بنى بها داراً وأسكن أولاده بها بعد سنة (368هـ).
واستمرت بعدها مدينة حوث على ذلك، من دون أن تغيب عن الواجهة السياسية, ففي بدايات القرن السادس الهجري ولد بالقرب من مدينة حوث الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وسكنها، والذي تولَّى الإمامة سنة (532هـ)، “ثم بسط نفوذه في أنحاء اليمن، ووحَّد أقطارها, وخُطِب له في بلاد الحجاز ينبع وخيبر, وانقادت لحكمه الجيل والديلم”.[المؤيدي, التحف, ج1/ ص258].
وبعد وفاة الإمام المتوكل على الله استمر هذا الدور، فقصدها الإمام المنصور عبدالله بن حمزة، واستقر بها سنة (596هـ) كاملة وأشهراً في سنة (597هـ)، ثم قصدها في سنة (599هـ)، واتخذها مركزاً له لتفقد أحوال البلاد, فقصده إليها الأمير المؤيد السليماني “صاحب أبو عريش”، ثم استقر بها الإمام المنصور في سنة (600هـ)، ومنها وزَّع عمَّاله على بعض مناطق اليمن “كتهامة” و”سفيان”.
وبسبب هذا الدور الذي لعبته مدينة حوث، فقد تعرضت في تلك الفترة للخراب ثلاث مرات، في سنة (600هـ), وفي (605هـ) وفي (615هـ).
وفي بداية القرن السابع اتخذها الإمام المهدي أحمد بن الحسين أبي طير سكناً له, وذلك في سنة (653ه) واستمر بها سنة كاملة, وفي سنة (656هـ) انطلقت منها ثورة معارضة ضد الإمام المهدي بقيادة داوود بن الإمام المنصور, وبغض النظر عن موقفنا من تلك الثورة ومن أهدافها, فإننا في صدد الحديث عن دورها السياسي, ولا شك أن المدن التي تستطيع أن تقود الثورات تعتبر من المناطق المؤثرة سياسياً على الساحة.
وفي مطلع القرن الثامن, وبالتحديد في سنة (701هـ)، انعقدت البيعة فيها للإمام محمد بن المطهر, والذي بسط نفوذ دولته على معظم مناطق اليمن “الشمال والجنوب”، فقد “افتتح عدن وتلك المناطق”.[المؤيدي, التحف, ج1/ ص288].
وفي ثورة الإمام القاسم بن محمد، في مطلع القرن الحادي عشر، اتخذ الإمام من جبل رميض المطل على مدينة حوث منطلقاً لجهاد الغزاة الأتراك.
وهكذا كان لحوث وأهلها دور سياسي بارز, في مختلف العصور، كسائر المناطق اليمنية, وإن كان ذلك الدور يتغيَّر بين مدٍّ وجزر, فمرة يلمع ومرة يخفت, وبقي هنا أن ننوه إلى وجه آخر من أوجه الأدوار السياسية, وهو ما يعرف في فكر أهل البيت – عليهم السلام – بالاحتساب, وهو وجه آخر من أوجه الولاية وإدارة شؤون البلاد, يخوّل صاحبها بعض الولاية في إدارة البلاد، من إزالة المنكرات ونفي الفواحش ومحاربة الفساد الديني والأخلاق, وقد شهدت مدينة حوث هذا الولاية, ففي القرن الثاني عشر الهجري قام بالاحتساب السيد المحتسب يحيى بن محمد الحوثي المعروف بالعروبا, والذي توفي سنة (1152ه), ثم قام بالاحتساب بعده تلميذه السيد المحتسب أحمد بن قاسم عشيش.
الدور العلمي
ظلت مدينة حوث هجرة علمية وجامعة لتدريس العلوم الشرعية عبر عصور الاسلام, فهي من أقدم الهجر العلمية وأوسعها وأشهرها وأطولها عمراً, ولم تخلُ على مر العصور من الدرس والتدريس, فقامت فيها عدد من المدارس العلمية العريقة, وسكنها عدد من أقطاب العلوم وأئمة الاجتهاد, فقد سكنها الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان, ودرَّس فيها وأخذ عنه العلم مشاهير الإسلام في ذلك الزمان, أمثال حميد بن أحمد القرشي, وفي تلك الأيام وفد إلى اليمن من أرض العراق العلامة الكبير زيد بن الحسن البيهقي, فالتقى به الإمام المتوكل على الله وأجازه, وأن يفد عالم من العراق فهذا يدل على ازدهارٍ الحياة العلمية, كما أنه يعتبر رافداً جديداً من روافد العلم, فقد جاء ومعه كثير من علم أهل العراق، ولا شك أن العلماء اليمنيين وفي طليعتهم الإمام المتوكل على الله قد استفادوا من تلك العلوم.
وممن أخذ عن الإمام المتوكل على الله العلامة المجتهد الحسن بن محمد الرصاص, وأسَّس مدرسة علمية في حوث كانت واسطة عِقْد الأسانيد في ذلك العصر ومنهلاً اغترف منه العلماء والأئمة, ولعل أشهر من قرأ في هذه المدرس وتخرج منها الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة, والذي واصل النشاط العلمي في مدينة حوث، فبنى فيها مسجده المسمى بالصومعة, وأسَّس فيها مدرسته العلمية التي عرفت بـ(المدرسة المنصورية)، ولعل هذا العصر من أزهى عصور المدينة علماً ومعرفةً ودرساً وتدريساً, ولقد تخرج من هذه المدرسة كبار العلماء الذين برزوا فيما بعد كشعلة الأكوع وحُمَيد الشهيد، وفي تلك المرحلة تلقى الإمام المطهر بن يحيى العلوم في مدينة حوث وأخذ عن علمائها كالفقيه العلامة إبراهيم بن علي الأكوع.
وفي نهاية القرن السابع الهجري التحق بمدرسة حوث الإمام محمد بن المطهر, والذي بويع له بعد أن ظهر فضله وكراماته بالإمامة من هذه المدرسة، في مطلع القرن الثامن الهجري كما تقدم.
وفي هذه الفترة كان أشهر من أخذ العلم في مدينة حوث ودرَّسه الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والذي بلغت شهرته الآفاق وبلغت صفحات مؤلفاته كعدد أيام عمره.
ومن الأسر العلمية العريقة التي نشرت العلم في مدينة حوث وكان لها فضل عظيم في النهضة العلمية والثقافية في هذه المدينة، أسرة بيت الرصاص، وهم مِن أقدم الأسر العلمية العريقة في هذه المدينة, ولقد حافظوا طيلة تلك الفترة على هذا الموروث العلمي الأصيل.
لقد أسَّس الإمام يحيى بن حمزة في مدينة حوث مدرسة علمية متكاملة الأركان, ثم خلفه أبناؤه في إحياء هذه المدرسة، وقاموا بنفقات المتعلمين والمهاجرين والعلماء والمدرسين، حتى أصبحت مدينة حوث في عهدهم شَامَةً علمية بارزة في أرض اليمن، لا توازيها مدينة في جميع الأصقاع اليمنية, وإن شئت قل: بل في العالم الإسلامي.
واستمر الدور العلمي والثقافي لمدينة حوث في القرنين التاسع والعاشر, وإن بدا أنه قلَّ شيئاً يسيراً فلم يقلّ حقيقةً في الحركة العلمية، وإنما في المصادر التاريخية التي تتوفر اليوم عن القرن العاشر، ويرجع السبب كما يذكره العلامة القاسم السراجي في [روائع البحوث, ج1/ ص54] إلى قلة المراجع التي بأيدينا عن ذلك العصر، وقلة من ذكر مما بأيدينا، لتهدم واندهار الأضرحة كاملة بسبب السيول، فلم يبق ولا ضريح واحد.
لكنها برزت في هذين القرنين شخصيات علمية كبيرة، ولها ثقلها في الحياة العلمية والسياسية، ومن أبرز تلك الشخصيات العلامة الحجة شيخ العترة أمير الدين بن عبدالله بن نهشل, وهو في درجة علمية عالية، فهو شيخ الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد, وكان عليه مدار الإجازات العلمية في ذلك العصر.