محمد بن إدريس الشافعي من أكثر أئمة المذاهب الإسلامية صلة بالأدب والشعر إلى جانب غزارة علمه وفقهه وصفاء روحه ونقاء آرائه وسعة اطلاعه, وله موقف من السلطان يخالف مواقف علماء السلاطين ويبيّن بُعد نظرته الدينية والدنيوية من خلال تعزيز مكانته كإنسان يدرك معنى الحرية وأهمية أن ينأى العالِم بنفسه عن التقرب من الحاكم ، لأن للحكم في الغالب أخلاقيات تنم عن حالة مرضية إلا ما ندر ممن شفاهم الله من هذا المرض ، وفي الأبيات التالية بدأ الشافعي بوصف الملوك بالبلاء:
إن الملوكَ بلاءٌ حيثما حلُّوا
فلا يكن لكَ في أبوابهم ظِلُّ
ماذا تؤمِّل من قومٍ إذا غضبوا
جاروا عليكَ وإن أرضيتهم ملُّوا
فاستغن بالله عن أبوابهم كرَماً
إن الوقوف على أبوابهم ذُلُّ
والملوك في ثقافة المسلمين الأحرار رمز للظلم والجور والفساد, ولهذا فالشافعي في البيت الأول حاول تمثل معنى الآية القرآنية الكريمة على لسان ملكة سبأ (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) ، وفي هذه الآية إيماءة بأن النظام الملكي ووراثة الحكم لا يمكن أن يكون له بالإسلام صلة ! ، لأنه مصدر للفساد وأي بلاء أعظم من بلاء الفساد وهو نتاج أفعال الناس (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سورة الروم آية (41) ، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون) سورة البقرة آية (30) ، والنصوص التي توضح كون الإنسان هو الفاعل والمفعول في فعل الفساد الذي تُستخدم السلطة في رسم سياساته وفي تنفيذها إما بوسائل ناعمة أو خشنة ؛ لذلك كان الشافعي صادقاً في نُصحه لكل حريص على دينه بالابتعاد عن نفاق الحكام والتقرب إليهم لتجنب آثامهم بل وجرائمهم (فلا يكن لك في أبوابهم ظِلُّ) لأنهم غير مؤتمنين في غضبهم أو رضاهم والوصفة الناجعة للنجاة من براثنهم هو الاعتماد على الله والاستغناء به والحفاظ على الكرامة الإنسانية التي لا يبالي بها الحاكم الذي تأخذه شهوة السلطة كل مأخذ مهما ادعى خلاف ذلك.
والتجارب كثيرة التي تكشف السرعة التي أصيب فيها بعض من وصل إلى السلطة بمرضها الذي يُنسي المصاب به ماضيه وحاضره ومستقبله بل ويُنسيه كونه مخلوقاً وأن قدرة الخالق كفيلة بتبديل الأحوال من حال إلى حال وتكاد تكون أيدي الظلمة هي صانع التغيير (مِن مأمَنِهِ يُؤتى الحَذِر).. (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) سورة الأنعام آية (33) ، ولا يوجد ظالم أو فاسد يرى ظُلم نفسه وفساده وإلا لما بقي على الأرض ظالم ولا فاسد (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) سورة البقرة آية (11، 12) وقال الشاعر (يقولون الزمان به فسادٌ * وهم فسدوا وما فسد الزمان) ، ويصعب الفصل بين فساد الحكام وفساد الشعوب صنّاع الفاسدين والفراعنة, وهذا جوهر ما ذهب إليه محمد بن إدريس الشافعي في ضرورة النأي بالنفس عن مجاراة الظالمين ليس بالمعنى السلبي وإنما بمعنى أنه إن لم يكن له القدرة على النصح والعمل على رفع الظلم فلا ينبغي أن يكون عوناً للظالمين وأداة من أدواتهم ،
ولا ينبغي استغلال الدين للهروب من المسؤولية تحت أي مسمى, لأن العمل السياسي والإداري جهد لابد أن يخضع للتقييم العلمي والمساءلة, أما التستر برداء الدين فهو مخالفة لجوهر الدين (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) سورة النجم آية (32) ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده وليست للملوك والحكام يورثونها من يحبون من أبنائهم ، (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) سورة الأعراف آية (128).
وغاية الخلق للخلاق يحكمها * وكل حرِّ له في الكون أحلامُ