بين الشّهيد والأسير
أشواق مهدي دومان
كشقيقات استبقت لدى الباب تتنافس على فتحه لذاك المهاجر أبا أو أخا أو ابنا أو زوجا ، هكذا كانت تتلاحق دمعات من عمق الرّوح ، دمعات توّجتها الفرحة والغبطة حين كان الآتون هم الأسرى من أبطال الجيش واللجان الشعبيّة ، دمعات فرحة العودة وفرحة حمد وشكر للّه على قيادة ربانيّة بتنا نتطلّع ونتمنّى في ظلالها المجد والشّموخ أكثر وأكثر ،،
هناك سيّدي القائد : وقد لاحت أنوار العزّة وتنفّست اليمن صعداء المجد بك فكأنّك بلسم حين نعدّد كمّ انتصارات رجالك فتطيب جروح دهر عشناه في كنف أحقر الظالمين وأمّا الحمدي فلم ندركه إلّا حكايا خالدة عشقنا ترديد آبائنا وأمهاتنا بأن كان وطن لليمن اسمه الحمدي ، وأنّه قد خانه العملاء ، ورموه في غيابت جبّ ارتزاقهم وارتهانهم ورهنهم اليمن لبني سعود في 1977 بينما لم يغِب ( يوسف اليمن : الحمدي) ، فبئره أيضا لم تغيّبه فقد جاء عهد النّصر.. جاء رجال اللّه فكشفوا حقيقة رجل ما خان ولا باع فعاد روحا لم يستطع الحاقدون إزهاقها على مدى أكثر من أربعين عاما ؛ فقد أراد اللّه أن تُفتح صفحاتها من جديد ليعرف الشّعب أنّ كيد ( لابسي الشّراشف) لن يُخفي الحقيقة مهما طال غيابها ؛ فقد تكشّفت في رصاصاته الخائن (عفّاش) الذي امتحنه الملحق السّعودي برمي الوطن فرمى ذلك الوطن بكلّ سهولة ؛ ليفوز بذلّة وخسّة وتبعية بني سعود الأنجاس ، ويُطبع على جبينه وتاريخه كلمة :
خائن ؛ فهو وصاحبه (الغشمي) من كتّف الحمدي البارحة ليلطمه عربيد بني سعود، وكما أراد مرتزقة اليوم وباعة الأوطان أن يكتّفوا اليمن ليستبيحه عدوان عالمي أرعن فقد حان زمن الرّدّ الذي انتصر ومن النّصر فكّ أسر رجال اللّه من بين أنياب المسوخ الذين مارسوا فنون تعذيب لا يعترف بها دين ولا تباركها عقيدة سماوية ، ولكنّه قانون الغاب الذي يتبدّد على يد هؤلاء الأبطال من أسرى الجيش واللجان الشعبيّة الذين ضاق بحريتهم وشموخهم وكبريائهم حديد القضبان فصدأ الحديد، وما صدأ إيمانهم ، وما وهنت أرواحهم وإن وهن الجسد بذاك التّعذيب الذي لا يترجم إلّا مدى الانهزام الذي يعيشه من مارس تعذيبهم ، وهم الأبطال الأقوى إيمانا وثباتا ، والذين لم تزلزلهم آلة التّعذيب ، فعادوا منارات ومدارس أستاذها الثّقة باللّه الذي شدّ رباط قلوبهم بثبات أسطوري ، ومنحهم صبرا وجلدا حدّ إغاظة السّجانين الملاعين ،
عاد أسرانا رغم ما لاقوه من صنوف تعذيب مسوخ البشر ، وهذا فقط ما هيّج شجني وابتعث الألم في روحي المتبعثرة حيرة أن يكون هناك من الوحوش البشريّة منحرفون فكريّا وإنسانيّا حدّ تعذيب بشر مثلهم بناء على ما توجّهه عقائدهم وأيدلوجياتهم وعقدهم المزمنة القائمة على البغض وتكفير الآخر ، وبالتّالي فجلّ عمل أولئك المنحرفين هو الارتواء من آهات الأحرار التي زلزلت كيانات أولئك المرتزقة المأزومين أخلاقيا وعقائديا وإنسانيا رغم كرفتاتهم و رغم امتطائهم لحاهم التّكفيريّة فلم يسطيعوا إخفاء ذيولهم باعتبارهم ( بني كِلْب) ، وليس بني آدم ،،
و هنا أقف بين كلوم الشّهيد وآهات الأسير لأكتب بحروف عميقة الجروح فبالأمس القريب حقائق تصعقنا عن اغتيال البطل : إبراهيم الحمدي ، واليوم تنسكب من إناء القلب أحرّ الدمعات ممزوجة بأوجاع الرّوح المتشعّبة على من عاد من أسره وفي روحه عطش يفوق ذلك العطش الذي كان يعذّبه به الرّخاص من المسوخ !! عطش لا يشعر به إلّا من سافر عبر فيافي الفقد فأنهكته الغربة فبعثرت روحه بين ذرات الحيرة والتّعجّب ؛ فقد خرج بعض رجال اللّه من كربتهم يشتاقون لرؤية آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم ، وحين الحريّة يجد منهم من قد توفي والداه واستشهد أخوه ، فنراه لا ينتظر طويلا ، ولا يحتار ، ولا يأخذه التّفكير فانحناؤه ساجدا للّه هي ردّة فعله التي تبقى أكبر شاهداً على تمكّن الإيمان من قلبه الطّاهر ،،
نعم : رأينا ذلك الأسد الجريح يسجد وفي روحه من حرارة الشّوق التي أطفأتها مفاجأة وحقيقة أنّ أحبّ النّاس إليه قد رحلوا.. رأينا في تقاسيمه حرقة بحجم ووزن وقدر ما يلفح وجه الكرة الأرضية وجعا أبيّا لا ينهزم فالسّجود للّه قوّة.
و هذه حكاية واحد من أولئك الأبطال ، ويعلم اللّه بتفاصيل حكايا سواه
فيا إلهي كن لرجالك طبيبا ، كن شفاء وأنت أرحم الرّاحمين، ياربّ وكن طبيب الرّوح الموجوعة واشفها حين لغبت وسغبت ؛ ففي أقلّ من أسبوع بكينا الحمدي ثمّ فرحنا عودة تيجان الرؤوس وخيرة الرّجال ، ويا ربّ فرحا لا ينقطع ، والسّلام.