
من صنعاء بدأت لبنة النضال الوطني ضد الاستعمار الأجنبي
المغتربون والطلاب في الخارج أسهموا بدورُ فاعل في النضال والانتصار
تحقيق/ فايز محيي الدين البخاري
الحديثْ عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م حديثَ طويلَ ومْتشِعبº كونِهْ يأخذ المرءِ إلى مراحل شتى من مراحل النضال الوطني الذي جسِدِهْ أبناءْ الشعب اليمني الأبي بكل شجاعةُ وبسالة في وجه المستعمر البريطاني حيث لا يمكن لمِنú يْريدْ الحديثِ عن ثورة أكتوبر أنú لا يعود بذاكرته إلى اليوم الأول الذي شهدتú فيه مدينةْ عدن الباسمة – والتي هي جزء عزيز في جسد الشعب اليمني- طلائعِ الحملة الاستعمارية البريطانية التي قادها القبطان هينس في صبيحة التاسع عشر من يناير 1839م بعدِ عددُ من المحاولات الفاشلة من قبِل القوات البريطانية المْحتلة.
* فهذا اليوم لا يزالْ وسيظل عالقاٍ بذاكرة الأْمِة والشعب عامةº كونِهْ أول يوم تطأْ فيه أقدامْ المستعمر الغاصب أراضي الشعب اليمني الذي ما رضخِ لمْحتِلُ أبداٍ طيلة الحقب الزمنية المتتالية منذ عهد الأحباش ثم الفرسº ومروراٍ بالغزو العثماني المتكرر والقراصنة البرتغاليينº وانتهاءٍ بالاستعمار البريطاني الذي لاقى بسالةٍ منقطعة النظير ومقاومةٍ ضارية كانت كفيلةٍ بدحره وإخراجه رغماٍ عن أنفه صاغراٍ ذليلاٍ في الثلاثين من نوفمبر 1967م بعد سنوات من الكفاح المْسلِح الذي قادِهْ الوطنيون والمناضلون الشرفاءْ من أبناء الشعب اليمني الذين أبوا أنú تظلِ أقدامْ المْحتل تْدنس ثراهم الطهور وأنú تبقى أفواهْ المستعمر تمتصْ خيرات وطنهم جهاراٍ نهاراٍ دون وجه حق فهبِ الشعبْ قاطبةٍ من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وكْلْهْم يهتفون بصوتُ واحدُ “بِرِع ..بِرِع يا استعمار”.
تأثير الثورة السبتمبرية
* حين نتحدث عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م لا بْدِ أنú نعودِ إلى الإرهاصات الأولية التي كوِنتú هذا البركان الثوري الذي عِجِزِ الاستعمارْ البريطاني عن الوقوف في وجه تيِاره العاتي أو التصدي لحمِمه التي طالتú كْلِ افراده وسامتúهْم سوءِ العذاب.
وممِا لاشكِ فيه عند الجميع ممِنú كتبوا وأرِخوا لثورة أكتوبر أنú انطلاقة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م في صنعاء ضد النظام الإمامي الكهنوتي الرجعي المستبدº كانتú هي الحافز الأول فيما بعد لتفجير وانطلاقة ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م التي أِطúلِقِ أْولى شرارتها المناضلون من المناطق الجنوبية والوسطى أمثال “لبوزة” الذين شاركوا ببسالةُ في حروب الثورة السبتمبرية وعادوا مْحمِلين بالحماس الوطني الذي يتقد بين جوانحهمº وقد عقدوا العزم على أنú لا يظل على الأراضي اليمنية أي أثر لمْستبد أو مستعمر وهو ما باركتúهْ حكومةْ صنعاء آنذاك والتي كانت لا تزال في بدايتها والأخطار الإمامية وجحافل الرجعية تْحدقْ بها من كل جانب ورغم ذلك لم تنسِ أنِ عليها واجباٍ وطنيِاٍ مْقدساٍ تجاهِ جْزءُ عزيزُ وغالُ من الوطن الحبيب كان لا يزالْ يرزحْ تحتِ نِيúر المْستعمر البريطاني الذي حاولِ بشتى السْبْل قمعِ المقاومة الوطنية التي تفجِرتú ضدِهْ في كْل مناطق جنوب الوطنº وقامِ بعدِة عمليات وحشية ضد المواطنين العْزِل من أبناء اليمن ظناٍ منه أنِهْ بتلك العمليات الوحشية سيْثنيهم عن مواصلة الكفاح والتخلي عن فكرة التحرْر من براثنه والفكاك من شباكه وشراكه التي نصبِها للأحرار في كْل مكانº ولكنِها بدتú أمامِ طوفان الغضب الثوري للمناضلين اليمنيين أوهى من خيوط العنكبوتº الأمر الذي أرغمِ بريطانيا العظمى أو الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى الإذعان صاغرةٍ ذليلة لمطالب الشعب اليمني الحرº وذلك بالجلاء عن كل أراضيه دون قيدُ أو شرطº وهو ما لم يكن ليحدث لولا البسالة الوطنية الصادقة التي أبداها المناضلون اليمنيون على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية في كل مناطق المواجهة التي دارت فيها رحى الحرب التحررية بينهم وبين القوات البريطانية المحتلة.
من صنعاء البذرة الأولى
* بعد مرور عام على قيام الثورة السبتمبرية اجتمعِ عددَ من مناضلي المناطق الوسطى والجنوبية ممِنú شاركوا في الثورة السبتمبرية والحروب ضد فلول الإمامة في دار السعادة وقصر البشائر بصنعاء وعلى رأسهم قحطان محمد الشعبي وبحضور ناصر السقاف وعبدالله المجعلي ومحمد علي الصوماتي وثابت علي المنصوري ومحمد أحمد الدقم وبخيت مليط وأحمد عبدالله العولقي وعيدروس حسن القاضي وعلي محمد الكاظمي وعبدالله محمد الصلاحي والذين قاموا بالإعداد لمشروع ميثاق وطني يْوجِه إلى القوى الوطنية ودعوا إلى تشكيل “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” وكانت هذه اللجنة – حسب سعيد أحمد الجناحي – قد لاقت تجاوباٍ ودعماٍ من قبل حكومة صنعاء والقوات المصرية في اليمن آنذاك بإيعاز من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يْولي قضايا اليمن اهتماماٍ خاصاٍ ناهيك عن طموحاته العربية والقومية في القضاء على كل الانظمة الرجعية في الأقطار العربية وتحرير كافة الأراضي العربية من دنس المستعمر الغاشم وهو ما حدا بالقيادة المصرية إلى المسارعة لدعم جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل ومباركة الخطوات التي اتخذها ممثلو الجبهة برئاسة قحطان محمد الشعبيº بل وقامت القيادة المصرية بفتح معسكر في “صالة”لتدريب الفدائيين من اليمنيين الذين كان لهم دور حاسم في ثورة 14 أكتوبر بما خلقوه من رعب منقطع النظير في نفوس قوات الاحتلال البريطاني التي رأت في اليمنيين بسالة ما عهدت مثلها في كثير من الشعوب التي احتلتها رغم السياسات المتعددة التي انتهجتها طيلة الحقبة الاستعمارية والتي اتسمت باللين تارة أخرى ومحاولة التمويه بالمعاهدات والحمايات وإبرام الصفقات النفعية مع بعض السلطنات والمشيخات الجنوبية إلا أن كل ذلك لم يجد في الأخير شيئاٍ وباءت محاولات بريطانيا كاملة بالفشل الذريع وعلى رأسها سياسة “فرق تسد”.
واحدية الثورة
* ولعل القول بواحدية الثورة اليمنية ضد الإمامة والاستعمار البريطاني والذي تناوله العديد من الكتاب الذين أرِخوا للثورة اليمنية قولَ لا يحيد عن الصواب أبداٍº بدليل ما ذكرناه سابقاٍº وبدليل المشاركة الباسلة لأبناء الجنوب في ثورة 26 سبتمبر 1962م واتخاذ صنعاء وتعز وإب قاعدة لانطلاقة التنظيم الوطني الذي قاد الكفاح المسلح في الجنوب بدعم من حركة القوميين العرب بصنعاء والتي انبثقت عنها الجبهة القومية بعدن التي تولت في البداية تبني الكفاح المسلح ضد بريطانيا بعد أن أعلن أولى شرارات الثورة عليها المناضل الشهيد غالب بن راجح لبوزة من أعلى جبال ردفان الشماء في الرابع عشر من أكتوبر 1963م فما كان من القوى الوطنية المنظمة وفي مقدمتها الجبهة القومية التي تكونت بدعم من حكومة صنعاء إلا أن تبنت تلك الثورة وأعلنت للملأ عبر المنشورات التي كانت تْوزِع في كل مكان عن مواصلتها للكفاح المسلح الذي اعتبرته الحل الوحيد والأمثل لتحرير الجنوب اليمني المحتل من براثن المستعمر البريطاني الغاصب.
وفي هذا المقام أذكر ما قاله لي المناضل “حسين شرف الكبسي” أحد أفراد تنظيم الضباط الأحرار الذين فجِروا ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة ضمن المقابلة التي أجريتها معه في العدد الخاص من صحيفتنا الغراء “الثورة” الذي صدر في يوم السادس والعشرين من سبتمبر بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لقيام الثورة السبتمبرية حيث أفادني بالقول : إنه بعد أن تولى قيادة لواء إب خلفاٍ للشهيد أحمد الكبسي في السنوات الأولى لثورة سبتمبر أتاه إلى مدينة إب عدد من أبناء الجنوب وبينهم أشخاص من المناطق الوسطى في إب ممن شاركوا في ثورة أكتوبر وطلبوا منه أنú يتم مواصلة الاتفاق الذي كان بينهم وبين الشهيد أحمد الكبسي الذي كان قائداٍ للواء إب قبله وحين سألهم عما هو الذي بينهم وبين الشهيد أحمد الكبسي من اتفاق قالوا له أنه كان يمدهم ويدعمهم بالمال والسلاح الذي كانوا يواجهون به قوات الاحتلال البريطاني فأجابهم بأنِهْ ملتزم بتقديم ذلك الدعم وزيادة بل إنِهْ يقول أن متانة العلاقة بينهم وبين ثوِار ردفان والضالع وصلِتú إلى حد تقاسم الكْدِم(العيش) معهمº ما جعلِ الرئيس سالم رْبيع علي يقف مع المناضل حسين شرف الكبسي بقوة حين اعتقلِهْ الرئيس أحمد حسين الغشمي عقب مقتل الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي وقد تدخِلِ الرئيس سالمين بقوة حتى اضطْرِ الغشمي للإفراج عن الكبسي والاعتذار له حسب قوله..
وذلك بالطبع لم يكن موقف الكبسي وحده وإنما موقف الحكومة بصنعاء كاملة ولكن بحكم قرب والتصاق محافظة إب بمناطق الضالع وما جاورها من المناطق التي كانت ترزح تحت نير المستعمر البريطاني فقد كان الكبسي حلقة وصل بين حكومة صنعاء وثوار الجنوب وهو ما دفع حسين شرف الكبسي إلى مواصلة ذلك الدعم وإمداد المقاتلين من أبناء الجنوب بكل ما كانوا يحتاجونه من مؤن وأسلحة إلا أن معظم تلك الأسلحة كانت تقتصر على النوع الخفيف لسهولة تهريبها وحملها عبر الحدود.
ويشير حسين شرف الكبسي إلى أنِهم كانوا على تواصل مع معظم قيادات الكفاح المسلح من مناضلي الضالع أمثال علي عنتر وصالح مصلح وعلي شايع هادي حيث التقوا مراراٍ على نقاط الحدود وتبادلوا الأحاديث وجلسوا مع بعض للتخطيط لما يمكن أنú يقدمه أبناءْ المحافظات المجاورة لهم كتعز وإب والبيضاء من دعم وتبادل الخبرات والاستشارات. وأكد على أنِ هذا التواصل ظلِ قائماٍ حتى حصول الجلاء في الثلاثين من نوفمبر 1967م وحينها كان حسين شرف الكبسي قائداٍ للواء “البيضاء” وهو ما دفعه إلى الاتصال بالقيادة بصنعاء والاستفسار منهم هل آن لنا أنú نعترف بدولة جنوبية يمنية كما تم الإعلان عنها في عدن¿ فأفاده الذين في القيادة بأنِ الوقت غير مناسب وأنهْ من الأفضل التريث في ذلكº فالشعب واحد ولا يمكن الاعتراف بدولتين أو قيامهما وأنه لضرورات عسكرية قد يضطر ثوار ومناضلو وحكومة صنعاء في ظل الحصار الخانق الذي فرضته عليهم قوات الرجعية وفلول الإمامة بدعم من قوى خارجية قد يضطرون إلى الانسحاب عن صنعاء وما جاورها واتخاذ الجنوب عمقاٍ استراتيجياٍ للثورة اليمنية برمتها. وهو ما دفع الكبسي ومن إليه إلى النزول إلى مكيراس لمشاركة الأخوة في القيادة الجنوبية الاحتفال بيوم الجلاء والعودة دون نقاش لوضع ما بعد الجلاء.
وهذا كله يؤكد على واحدية الثورة اليمنية كما يرسم صورة حقيقية للشعور الجماعي اليمني تجاه مختلف القضايا الوطنية والذي تجسد بشعور الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
كما يوضح مدى العلاقة الحميمة التي كانت تربط مناضلي المناطق الشمالية بمناضلي المناطق الجنوبية الذين كان يعمل كْلَ منهم بجهة مختلفة وضد عدو مختلف إلِا أنهم متفقون على الكفاح ووحدة المصير وواحدية الهدف والغاية ما يدل على أن ما حدثت بعد ذلك من محاولات لتوطيد ثقافة التشطير لحوالي ثلاثة عقود من الزمن لم تكن إلا بإيعاز ودعم من قوىٍ خارجية كانت ترى في وحدة اليمن خطراٍ يتهددها الأمر الذي دفعها إلى بذل كل الجهود والأموال في سبيل نشر الفرقة بين قيادتي الشطرين وإيهام الجانبين بأنهْ لا خير للآخر إلا إذا ظل بعيداٍ أو في معزلُ عن أخيه.. ولكن إرادة الله وتصميم الشعب اليمني الواحد الذي يكرهْ التمزق والتشطير طيلة الحقب الزمنية من عمره وعلى مر التاريخº أبِتú إلِا أنú تعودِ المياهْ إلى مجراها وأنú يعودِ الشعبْ اليمني إلى أصله كما كان واحداٍ موحداٍ إلى الأبد.
عدن الحضن الآمن
* ويمكننا في هذا الصدد أنú نشيرِ إلى أنِ عدن ظلت هي الحضن الدافئ والآمن الذي لجأ إليه معظم المناضلين والأحرار الذين نجوا بأنفسهم من سيوف الأئمة الجلادين وظلمهم واستبدادهم حيث كانت الواجهة الأولى التي تْيِممْ إليها وجوهْ اليمنيين الذين يفرون من المناطق الشمالية خشيةٍ من سطوة الإمام وحاشيته الجلادين ممن استمرأوا القتل والتعذيب والتنكيل بالأبرياء وساموا المناضلين والأحرار ألواناٍ شتى من العذاب.
وهو ما يؤكد أنهْ لم يكن لثقافة التشطير أيِ أساس في أذهان اليمنيين جميعاٍ فمِنú يهرب من ظلم المستعمر يتجهْ نحو الشمال ومِنú يفر من جبروت الأئمة المستبدين يتجه صوب عدن وحين تقوم الثورة بصنعاء يهب أبناء الجنوب بالآلاف للمشاركة فيها وبعدها يتم التخطيط من صنعاء لتحرير الجنوب اليمني المحتل وبدعم ومباركة من حكومة صنعاء.. وهكذا كان الوضع ولولا تدخْل القوى الخارجية والوضع المهترئ والموقف الحرج الذي كانت تمر به الثورة السبتمبرية وهي تواجه قوات الملكية والرجعية عام 1967م حين حصل الجلاء على الجنوب المحتل لتمتú الوحدة بكل سهولة حينها ولما تأخرتú إلى صبيحة الثاني والعشرين من مايو 1990م حيث وقد كانت الوحدة اليمنية هي غاية الجميع وهي الشعار الوطني الذي ترفعه كل القوى والتنظيمات السياسية وتتبناهْ قيادتا الشطرين مما يعني أنِ الفترة من عام 1967م وحتى 1990م التي لم تتجاوز الـ 23 عاماٍ هي فترة ظل يعيشها الشعب اليمني مشطراٍ سياسياٍ فقط ولكن في ظل إرادة وطنية شاملة تؤمن تمام الإيمان بأنِ الوحدة اليمنية قائمة في أوساطهم وبأنِهْ لا بْد من تحقيقها على صعيد الواقع السياسي عن طريق الدمج الكامل لكافة المؤسسات الحكومية في كيان واحد اسمهْ (الجمهورية اليمنية).
دور المغتربين والطلاب
* ومن الصور الناصعة التي مهدت لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963 م وعكست التلاحم الوطني الكبير إزاء المستعمر الأجنبي ما لعبه المغتربون اليمنيون في الخارج على اختلاف مناطقهم سواء في دعم الأحرار المناوئين لحكم الإمامة الكهنوتي أو في دعم الحركات الوطنية التحررية ضد الاحتلال البريطاني وهو ما بدا واضحاٍ منذ أربعينيات القرن العشرين حين أسهم المغتربون اليمنيون بشراء مطبعة للصحف والمنشورات كان مقرها عدن وكان لها دور كبير في طباعة الصحف اليمنية التي كانت اللبنة الاولى في نشر وبلورة الوعي الثوري في أوساط اليمنيين تجاه المستعمر الأجنبي ناهيك عمما قامت به تلك الصحف من إقلاق وإزعاج للإمامة والمستعمر على السواء حيث اتخذها أحرارْ الشمال وسيلةٍ قوية لإيصال أصواتهم للإمام من مدينة عدن التي كانوا هاربين فيها فيما اتخذها مناضلو الثورة الأكتوبرية وسيلة دعائية لها وزنها وثقلها في طباعة ونشر معظم المنشورات التي كانت توزع سراٍ من قبل بعض العناصر الوطنية التي شاركت بالنضال والكفاح ضد الاستعمار وكان القصد منها نشر الوعي وتحريض المواطنين على تبني الكفاح المسلح ضد الاستعمار من أجل نيل الاستقلال التام للوطن اليمني الذي لا يمكنه العيش تحت ربقة الاستعمار أو البقاء تحت وطأة جبروته وطغيانه وهو الشعب الذي ما عرف الخنوع أبداٍ.
هذا الدور الذي لعبهْ المغتربون لم يكن ليقل أهمية عن الدور الذي لعبِهْ الطلاب اليمنيون ممن درسوا في الخارج آنذاك وشاهدوا ما وصلِتú اليه تلك الدول من تقدم وتطور في كافة المجالات فضلاٍ عن تأثرهم بموجة المد القومي العربي الذي تبنى التحرر من كافة الأنظمة الرجعية والاستعمار الأجنبي على السواء وهو ما كان له كبير الأثر في نفوس أولئك الطلاب اليمنيينº وخاصة الذين كانوا في القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق فقد عادوا يحملون أفكاراٍ نيرة ورؤى تقدمية مشحونة بطاقات الشباب المتوهجةº فعملوا بكل ما أْوتوا من جهود وقوة على إشعال فتيل الثورة من خلال انخراطهم في أوساط المجتمع وتوعيته بما وصلِ إليه الآخرون الذين انقضوا على المستبدين وتحرروا من المستعمرين.. فكانوا بذلك بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الفتيل الذي كان جاهزاٍ ولم يكن ينتظر سوى ذلك الثقاب لينفجر بعد ذلك قوياٍ مدوياٍ تخرسْ أصواتْهْ ألسنة المستبدين وتصمْ آذان المستعمرين الذين فوجئوا بذلك الصوت القوي المزمجر الهادر الذي دِكِ حصونِ الرجعية ومزِقِ شباك المحتل وخِلِقِ وأوجدِ على أنقاضهما يمناٍ حديثاٍ يستمد شرعيته وحريته من ماضُ حضاريُ عريق وإرثُ تاريخيُ يضربْ بجذوره في أعماق الحضارات الإنسانية التي لعبت دوراٍ فاعلاٍ وبارزاٍ في معظم المدنيات السابقة والتي امتدت ظلالها الى المدنية الحديثة.
سلطنات ومشيخات
* وإذا كانت حرب الثورة السبتمبرية قد امتدت لأكثر من سبع سنوات بسبب تدخل القوى الخارجية الرجعية ممن رأت في النظام الجمهوري خطراٍ عليها وخشيت من تدفق المد الثوري إلى أراضيهاº فضلاٍ عن بعض الحسابات الأخرى لقوىٍ عظمىº فإنِ حرب الثورة الأكتوبرية قد امتدت زهاء الست سنوات بسبب السياسة التي انتهجتها بريطانيا طيلة الحقبة السابقة للثورة منذ 1839م حيث عملت على نشر الفرقة بين أبناء اليمن وأوجدتú في كل مكان ومنطقة مشيخة أو سلطنة تقوم بمساعدتها في قمع الثائرين مقابل الامتيازات الكاذبة التي كانت تخدع بها أولئك السلاطين والمشايخ ممن ارتضوا بالدونية وآثروا السلام على النضال والحرية وهو ما تبدِى واضحاٍ بكثرة المشيخات والسلطنات التي ظهرت في ظل الاستعمار البريطاني والتي أوجدِ بعضها المحتل من العدم وحاولِ أنú يصبغِ عليها الشرعية بإبرام المعاهدات معها والاعتراف الرسمي بزعمائها الأمر الذي كان يندرج تحت مْسمِى السياسة البريطانية المعروفة التي أشرنا إليها آنفاٍ ( فِرقú تِسْدú ) وهو ما لم يكن له مردود إيجابي بالنسبة لبريطانيا في خاتمة المطافº بل حدث العكس من ذلك إذú ثار الشعبْ اليمني قاطبة بعد أنú استاء من تلك السلطنات والمشيخات وكانت هي أحد الأسباب التي عجِلتú بالكفاح المسلح ودفعت المناضلين اليمنيين إلى الاستماتة في سبيل تحرير وطنهم من المحتل الغاصب وأذنابه من العملاء الذين ساعدوه على البقاء طويلاٍ على ثرى وطننا الطهور.
والأسلوب نفسه انتهجته بريطانيا تجاه الفصائل الثورية المناضلة التي تبنت الكفاح المسلح ضدها حيث سعت ومنذ بداية ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م إلى الإيقاع بين تلك الفصائل التي كانت تنطوي في إطار الجبهة القومية أولاٍ لتوجد صراعاٍ فيما بينها وبين جبهة التحرير التي تكونت فيما بعد الأمر الذي ولِدِ صراعاٍ بين الجبهتين استغلته بريطانيا لصالحها ولقمع الثوار بعضهم بعضاٍ من خلال التجاوب مع إحدى الجبهتين وإبداء المرونة تجاه الثانية تارة أْخرى.
ورغم أنِ العداء كان يستفحل بين الجبهتين بين الفينة والأْخرى وكان له مردود سلبي على الحركة الوطنية برمتها وعلى زعاماتها الذين قْتل البعضْ منهم والبعض الآخر شردوا إلى صنعاء والقاهرة إلِا أنِ الحس الوطني لم ينعدم أبداٍ لدى الجميع وظلوا في خندقُ واحد في مواجهة المستعمر الذي اضطْرِ بالأخير إلى الاعتراف باستقلال جنوب الوطن والرحيل عنه صاغراٍ ذليلاٍ بعد فترة طويلة اتسمت بالقسوة والوحشية من قبِله تجاهِ اليمنيين الذين آلوا على أنفسهم أنú لا تشغلهم خلافاتهم الداخلية عن طرد المستعمر وتقرير المصير.
ثورة استثنائية
* وعموماٍ يمكن أنú نصف ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م بالاستثنائية لأنِها جاءتú في وقتُ كانت فيه معظم القوى الوطنية اليمنية لا تزال مشغولة بالحرب مع فلول الإمامة والقوى الرجعية, ناهيك عن قلة العدة التي كانت لدى ثوار 14 أكتوبر مقارنة بما كان عليه وضع زملائهم ثوار 26سبتمبر هذا بالإضافة إلى استماتة الاستعمار البريطاني بالتمسْك بعدن وجنوب اليمن لما لها من أهمية في طرق الملاحة الدولية وتميز موقعها الاستراتجي بعد أن خسرِ معظم مستعمراته في شرق آسيا وفي إفريقيا وباقي دول العالم والتي تهاوت الواحدة تلو الأخرى منذ منتصف القرن العشرين مما كان له كبير الأثر في تشجيع الثوار والمناضلين اليمنيين إلى الانقضاض ببسالة على الاحتلال البريطاني والدفاع عن حريتهم واستقلالهم باستماتة. وقد حفزهم وشجعهم على ذلك بالمقابل الهزيمة الكبير التي تجرعها المستعمر البريطاني الغاصب في حرب السويس على مصر عام 1956م والتي ألحقتú أضراراٍ بالغة بالشعب المصري.
إلِا أنِهْ في الأخير خِرِجِ منتصراٍ حين دِحِرِ المستعمرين الغاصبين إلى الأبد وأِمِمِ قناة السويس التي كانت بريطانيا تعول عليها الشيء الكثير وبسقوط (( قناة السويس )) حاولت بريطانيا أنú تْكثف من هجماتها الشرسة ضد ثوار أكتوبر حتى يتراجعوا عن محاولات التحرر والاستقلال محاولةٍ بذلك تعويض نفسها عما فقدته في السويس والمستعمرات التي سبقِ وأنú تحررت من ربقتها.
وهذا ما جعلِ موقف أحرار ومناضلي ومقاتلي الثورة الأكتوبرية يعيشون ظروفاٍ قاسية جعلت من الثورة الأكتوبرية ثورة استثنائية بكل المقاييس وميزتها عن كثير من الثورات الأْخرى التي كانت أكثر حظاٍ منها من ناحية الظروف المواتية والمحيطة والدعم اللازم والعتاد والعدة.
ولهذا ستظل ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م حدثاٍ بحجم الوطن ونقطة تحول بارزة في مسار النضال الوطني الكبير الذي قادِهْ الشرفاءْ والمناضلون من أبناء الشعب اليمني لا طمعاٍ في سلطة أو جاه أو مال وإنما انتصاراٍ لحرية الوطن ورفعته وإبائه.
المراجع:
1-الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية 14 أكتوبر- مركز الدراسات والبحوث اليمني.
2-اليمن ..الثورتان..الجمهوريتان..الوحدة- فيصل جلول دار الجديد بيروت 1998م.
3-التاريخ العسكري لليمن – سلطان ناجي دائرة التوجية المعنوي صنعاء.
4-حركة المعارضة اليمنية – أحمد قائد الصايدي– مركز الدراسات والبحوث اليمني.
5-ثورة 26 سبتمبر دراسات وشهادات “ج1-ج2-ج3” مركز الدراسات والبحوث اليمني.
6- مجلة دراسات يمنية – أعداد متفرقة – مركز الدراسات والبحوث اليمني.
7- مقابلة خاصة مع المناضل حسين شرف الكبسي– صحيفة الثورة.
8- صوت من الريف- أحمد عمر مكرش- اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.