لم تصل الأمة إلى ما تبدو عليه اليوم من فتور إزاء مقدساتها وقضاياها المصيرية فجأة ولم يكن هذا التحول نتيجة حادثة عابرة أو صدمة واحدة بل هو حصيلة مسار طويل من الترويض الهادئ المتدرج أُدير بعناية حتى صار الاعتياد بديلا عن الرفض واللامبالاة قناعا للسلامة والصمت يسوق بوصفه حكمة واتزانا.
إنها حالة تخدير عام لا تميت الجسد لكنها تعطل الإرادة وتفرغ المعنى من محتواه حتى تغدو الإهانة مألوفة وينظر إلى الدفاع عن المقدس وكأنه عبء ثقيل أو مغامرة غير محسوبة العواقب.
بدأت القصة حين عُزل القرآن الكريم عن موقعه الطبيعي في تشكيل الوعي وبناء الموقف وحصر في دائرة الطقوس والشعائر الفردية لا يتجاوزها إلى توجيه السلوك العام أو صناعة القرار الأخلاقي والاجتماعي.
ومع هذا العزل فقد النص المرجعي حضوره في المجال العام وتحول من مصدر للفهم والتغيير إلى رمز يحتفى به لفظا ويغيب أثره عمليا. ثم جاءت مرحلة أعمق أُعيد فيها تشكيل الوجدان الجمعي فضعفت الصلة بالمقدسات بوصفها مركزا جامعا للهوية وصار الانتماء الديني يقدم على أنه شأن خاص لا علاقة له بالشأن العام ولا دور له في رسم ملامح الحياة المشتركة أو في الدفاع عن الكرامة الإنسانية.
ومع مرور الوقت دخلت الأمة في ارتباك قيمي خطير أُعيدت فيه صياغة المفاهيم الأساسية، فالحكمة صارت مرادفا للصمت، والعقل اقترن بالحياد البارد، والغضب الأخلاقي أُلصقت به تهمة التطرف والتهور.
لم يعد الاعتراض فضيلة ولا الاحتجاج موقفا مشروعا بل جرى تصويرهما كخطر يهدد الاستقرار والمصالح. وفي هذا المناخ تمدد خطاب إعلامي يطبع الإساءة تدريجيا ويغرق الناس في دوائر الإلهاء ويزرع في داخلهم شعورا بالعجز المسبق: «لن يتغير شيء».
أُضيف إلى ذلك خوف ممنهج من العقاب ومن الفوضى ومن فقدان الرزق أو المكانة الاجتماعية حتى صار الثمن النفسي للاعتراض أعلى من ثمن الصمت. وأخطر ما في المشهد أن الإهانة نفسها لم تعد تستقبل كحدث استثنائي بل كأمر قابل للتجاوز والتعايش.
غير أن هذه الحالة مهما بدت راسخة ليست قدرا محتوما. فكسر الحلقة لا يكون بانفعال عابر ولا بردود فعل موسمية سرعان ما تخبو بل يبدأ بإحياء الوعي القرآني بوصفه وعيا شاملا للحياة يعيد ربط المقدسات بمغزى الوجود وبقيمة الكرامة الإنسانية وبالمشروع الحضاري للأمة. يبدأ بإعادة الاعتبار للقرآن مرجعية تصنع الموقف وتضبط البوصلة وتمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الحكمة والتخاذل وبين العقلانية والحياد القيمي.
ويستمر هذا المسار بكسر حاجز الصمت عبر موقف منضبط واع لا ينجرف إلى الفوضى ولا يستسلم للتخدير، موقف يحوّل الدفاع عن المقدسات إلى مشروع دائم حاضر في التعليم وفي الخطاب العام وفي الفضاء الثقافي وفي التحرك المسؤول الذي يراكم الأثر ولا يبدده.
فالدفاع عن المقدس ليس صرخة عابرة بل بناء طويل للنفس والوعي والمؤسسات واستعادة للمعنى الذي يجعل الإنسان قادرا على الثبات دون تهور وعلى الاحتجاج دون انزلاق.
الأمة لا تموت لكنها قد تخدر طويلا. وحين يستعيد الناس ثقتهم بأن لأصواتهم وزنا وأن لتحركهم قيمة وأن الدفاع عن المقدس هو في جوهره دفاع عن الإنسان ومعنى الحياة يعود الغضب الأخلاقي حيا لا بوصفه انفجارا عاطفيا بل قوة دافعة للفعل المنجز والأثر المستمر.
عندها فقط تستعيد المقدسات موقعها الطبيعي كخط أحمر لا يُساوم عليه، وتستعيد الأمة وعيها بأنها مهما أُنهكت قادرة على النهوض متى ما رفضت الاعتياد واختارت أن ترى.. وتفهم.. وتتحرك.
