في ذكرى رحيل المفكر والأديب اليمني الراحل عمر الجاوي الـ (28) الذي صادف أمس الـ 23 من ديسمبر، تستعيد الأذهان كتاباته التي تَمزُقُ حجاب الزمن بين الراهن والتاريخ، لتكشف عن رؤية استشرافية لمصير الوطن اليمني. وفي ظل التصدعات الوطنية العميقة والسجال الدائر حول قضية الوحدة، تبرز نصوص الجاوي كمرآة تعكس جذور الصراع وأبعاد الحلم التوحيدي.
هنا نعيد نشر مقتطف من افتتاحية مجلة ” الحكمة ” – لسان حال اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين – العدد 101، أكتوبر 1982، الذي كتبه الجاوي بمناسبة مرور عقد على توقيع اتفاقية الوحدة في أكتوبر 1972 بطرابلس. هذا النص ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل هو دراسة نقدية حية لمسار الحركة الوطنية اليمنية، يضع الوحدة في قلب الهوية والنضال، ويطرح أسئلة ما زالت تُطرق أبواب الحاضر.
” كل مسار الحركة الوطنية اليمنية الحديثة يرتبط مباشرة بمسألة إعادة توحيد الوطن، إنها في التقدير الأخير قد أسهمت حقاً وعملاً في إنهاء مرحلة من النضال ضد الحكم الاستعماري الإمامي، وكانت سمة هامة في جنوب الوطن لتعريف وتحديد هوية المناوئين للاستعمار والسلاطين. ولقد انتفضت عدن ضد الحكم الذاتي وقاطعت انتخابات المجلس التشريعي منذُ (ربع قرن ونيف) تحت شعار ‘يمنية المنطقة وتوحيدها’، وسقطت أحزاب وقيادات قوية تحت نفس الشعار.
وانتصبت الوحدة اليمنية سلاحاً جباراً في يد الجماهير على نطاق المطالب اليومية في مستعمرة عدن، وقادت الحركة النقابية والوطنية رغم الخيانات المتكررة من قبل القيادات الانتهازية التي سقطت تاريخياً.
كل شعبنا يعرف حق المعرفة أن إفشال مشروع الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي لم يكن ممكناً إلا بواسطة الجماهير الوحدوية التي سجلت يوم ٢٤ سبتمبر عام ١٩٦٢، يوم الانتفاضة على المجلس التشريعي في عدن، نهايةَ هذا المشروع الاستعماري الانفصالي، ووضعت المقدمة لثورة شعبنا العظيم يوم ٢٦ سبتمبر عام ١٩٦٢. لم تجف الدماء بعد في عدن حين انفجرت صنعاء؛ لأن قضية وحدة نضال اليمنيين أكبر من أن تفهمها الدوائر الاستعمارية والرجعية، ولأن طموح اليمنيين في إعادة وحدة الوطن حقيقي وملهم.
ولا يمكن أن نظل هكذا نستعين بتوق شعبنا إلى الوحدة أثناء الملمات والصعوبات وفي ظل الوطن الممزق، إن منطق العصر الحديث والإيمان بحق الشعب في التقدم والازدهار، يقتضي إعادة الوحدة مادامت الظروف ملائمة وما دمنا نؤمن أن شعبنا موحداً.. “(*)
1 ـ الوحدة كإطار جامع للنضال:
يُصوّر الجاوي الوحدة اليمنية ليس كهدف سياسي فحسب، بل كـ ” سلاح جبار في يد الجماهير ” ومحرك أساسي للنضال اليومي ضد الاستعمار والأنظمة الرجعية. وهذا يربط بين المطالب الاجتماعية والحركة الوطنية، مما يجعل الوحدة مشروعاً شعبياً، وليس نخبوياً فقط.
2 ـ الوحدة كهوية مقاومة:
يشير النص إلى أن” يمنية المنطقة وتوحيدها ” كانا شعاراً رئيسياً لحركة التحرر في عدن، حيث تم رفض الحكم الذاتي والمشاريع الانفصالية. وهذا يؤكد أن الهوية اليمنية الموحدة كانت أساساً لمواجهة التجزئة الاستعمارية، وأن أي محاولة لفصل الجنوب عن شمال الوطن قوبلت برفض جماهيري.
3 ـ الوحدة كحقيقة تاريخية متجددة:
يربط الجاوي بين انتفاضة عدن في 24 سبتمبر 1962 وثورة 26 سبتمبر، ليؤكد أن ” قضية وحدة نضال اليمنيين أكبر من أن تفهمها الدوائر الاستعمارية “. هنا يتحول النص إلى تأكيد على أن الوحدة ليست حدثاً عابراً، بل هي عملية نضالية مستمرة، تجمع الدماء والثورات في بوتقة واحدة.
4 ـ نقد التوظيف الانتهازي للوحدة:
يحذر النص من استخدام شعار الوحدة كأداة مؤقتة خلال الأزمات فقط، داعياً إلى ” إعادة الوحدة مادامت الظروف ملائمة “. وهذا نقد ضمني للخطابات السياسية التي تتلاعب بحلم الوحدة دون إرادة حقيقية لتحقيقه.
5 ـ الوحدة كضرورة عصرية:
يرفع الجاوي الوحدة إلى مستوى” منطق العصر الحديث “، ويربطها بحق الشعب في التقدم والازدهار. وهذا يجعل المشروع التوحيدي ليس مجرد رد فعل على التجزئة، بل خياراً استراتيجياً للمستقبل.
وأخيراً، يمكن القول إن الجاوي بهذه الرؤية النقدية قدم وثيقة فكرية وسياسية تُحاكم بها الحاضر، وتُستلهم منها دروس المستقبل. فهو يذكرنا بأن الوحدة اليمنية لم تكن مجرد حلم، بل كانت وقود نضال وكلمة شعب، وما زالت تُختبر في محكمة التاريخ الراهن.
(*) ينظر: كتاب ( عمر الجاوي.. عشر سنوات ولا يزال حاضراً )، 2008م، ص65 وما بعدها.
