الأساس القانوني لنظرية الأعمال السيادية
مطهر يحيى شرف الدين
تستند نظرية أعمال السيادة إلى أساس قانوني يبررها ويدعمها ويقوي حجتها وتختلف المواقف الفقهية والقضائية والاجتهادية في تحديد هذا الأساس أو تحديد النظام القانوني الذي تنتمي إليه، وقبل الحديث عن الأساس القانوني تجدر الإشارة إلى أن الأعمال السيادية هي تلك التي تتصل بالسيادة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها السلطة التنفيذية بصفتها حكومة وليس بصفتها إدارة وبصفتها سلطة حكم وليس بصفتها تسيير مؤسسات حكومية ومرافق عامة وذلك من أجل الحفاظ على أمنها واستقرارها الداخلي والخارجي.
ولذلك يتضح جليا أنه من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار للدولة والدفاع عن سيادتها وقراراتها ضد أي وصاية خارجية ومواجهة لأي تدخلات أو إملاءات، فإن للسلطة العليا أو السلطة الانتقالية المستمدة سلطتها من الشرعية الثورية والإجماع الشعبي وليس من أي قانون وضعي الحق في اتخاذ القرارات والإجراءات والتدابير دون الخضوع لرقابة القضاء فلا يمكن لأي شخص كان مقاضاة سلطة الدولة أو مواجهتها في أية منازعة بسبب هذه الأعمال ، وهناك معايير معينة ومحددة يمكن بواسطتها تحديد هذه الأعمال ومعرفتها وإضافة إلى ذلك يبرز موقف القضاء والفقه منها كأساس قانوني ومرجعية لنظرية الأعمال السيادية والتي كان لفقهاء القانون الدستوري الاجتهاد والبحث في تحديدها وتكييفها والتي أنشأها مجلس الدولة الفرنسي تزامنا مع ظهور الثورة الفرنسية، فمع انقضاء هذه الظروف المصاحبة للثورة لم يقم المجلس بإلغائها وهي باقية حتى الآن ، ولذلك وضع الفقه والقضاء لاسيما في فرنسا معايير لتحديد الأعمال ومن أهم هذه المعايير معيار الباعث السياسي ويقصد به الهدف من إصدار السلطة التنفيذية لأعمالها فإذا أصدرت السلطة التنفيذية عملا من الأعمال وكان الباعث عليه سياسيا فإنه يعتبر من أعمال السيادة ولا يخضع بالتالي لرقابة القضاء ويضفي مجلس الدولة الفرنسي صفة السيادة لأي عمل يصدر من السلطة التنفيذية أو السلطة الانتقالية الغرض منه حماية المجتمع في ذاته من الأعداء في الداخل والخارج.
ولو تأملنا في هذا المعيار سنجد أن الغرض منه هو النظر إلى الدافع المتعلق بالسياسة وأن سبب اتخاذ هذا القرار يعود لسياسة الدولة ومصلحتها وتحقيق أمنها واستقرارها وبذلك يصبح هذا العمل من أعمال السيادة وعلى القضاء التنحي عن نظر هذه الدعوى ،.
* موقف الفقه والقضاء :
يذهب الرأي الراجح لدى الفقه أن أعمال السيادة تدخل في طبيعة الحق الراجح للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة وأن الحفاظ على حق الحياة مقدم على الحق في سلامة عضو من الأعضاء، لأن القاعدة تقضي بأن ” درء المغارم مقدم على جلب المغانم ” وهذا يعني أنها تنتمي إلى مفهوم النظام العام ،.
ويرى بعض الفقهاء أن العبرة في تحديد التكييف القانوني لأي عمل تجريه السلطة التنفيذية لمعرفة ما إذا كان عملا إداريا خاضعا للرقابة القضائية أو عملا من أعمال السيادة خارج عن نطاق هذه الرقابة هي بطبيعة العمل ذاته فلا تتقيد المحكمة وهي بصدد رقابتها على دستورية التشريعات بالوصف الذي يخلعه الشارع على تصرفات الحكومة متى كانت بطبيعتها تتنافى مع هذا الوصف ، وتبعا لذلك فإن تحديد عمل من الأعمال أنه من السيادة هو مسألة تكييف تقوم بها المحكمة المرفوعة إليها الدعوى تحت مراقبة المحاكم الإدارية العليا،.
وبالنسبة لموقف القضاء فقد جرى القضاء، الدستوري على استبعاد الأعمال السيادية من ولايته وخروجها من رقابته على دستورية التشريع كما أن استبعاد الأعمال السيادية من ولاية القضاء الدستوري إنما يأتي تحقيقا للاعتبارات السياسية التي تقتضي بسبب طبيعة هذه الأعمال واتصالها بنظام الدولة السياسي اتصالا وثيقا أو بسيادتها في الداخل أو الخارج النأي بها عن نطاق الرقابة القضائية استجابة لدواعي الحفاظ على الدولة والذود عن سيادتها ورعاية مصالحها العليا،.
وفي اجتهاد للمحكمة الدستورية المصرية ” أن العبرة في تحديد التكييف القانوني لأي عمل تجريه السلطة التنفيذية لمعرفة ما إذا كان من أعمال السيادة أو عملا إداريا هي بطبيعة العمل ذاته ولا تتقيد المحكمة العليا وهي بصدد رقابتها على دستورية التشريعات بالوصف الذي يخلعه الشارع على تصرفات الحكومة وأعمالها متى كانت بطبيعتها تتنافى مع هذا الوصف ، وبالتالي يكاد الفقه والقضاء يجمع على حصر طائفة من الأعمال الحكومية ولا سيما ما يتعلق بالخيارات الاستراتيجية للدولة وبتنظيم السلطات في الدولة ونظام الحكم والعلاقة بين السلطات والعلاقة مع الدول الأخرى وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية.
* القضاء المصري :
قرر القضاء المصري أن نظرية أعمال السيادة وإن كانت في أصلها الفرنسي قضائية النشأة ولدت في ساحة القضاء الإداري وتبلورت في رحابه إلا أنها في مصر ذات أساس تشريعي يرجع إلى بداية نظامها القضائي الحديث الذي أقرها بنصوص صريحة في صلب تشريعاته المتعاقبة المنظمة للمحاكم ومجلس الدولة تحقيقا للاعتبارات السياسية وذلك لدواعي الحفاظ على كيان الدولة واستجابة لمقتضيات أمنها واستقرارها ورعاية لمصالحها الأساسية.
ونتيجة لكل ما سبق فإن أعمال السيادة الصادرة عن السلطة العليا وبالذات السلطة الانتقالية تتمتع بحصانة ضد رقابة القضاء بجميع صورها ومظاهرها وتقتضي ألا تكون محلا للتقاضي وذلك لاعتبارات متصلة بنظام الدولة السياسي اتصالا وثيقا ، ولذلك فإن السلطة العليا لا سيما في المرحلة الانتقالية عندما تواجه فراغا دستوريا وتشريعيا على إثر الثورات الشعبية فإن لها الحق في سرعة اتخاذ الأعمال السيادية والإجراءات الضرورية لصون سيادة الوطن واستقلاله وحمايته كونها استمدت شرعيتها بموجب الإجماع الشعبي المطلق، مستندة بذلك إلى الشرعية الثورية والإرادة الحرة، وبالتالي فإن أحكام القضاء أو الإعلانات الدستورية تعتبر غير ملزمة وغير شرعية إذا تناقضت مع شرعية الثورة ، وبلا شك أنه إذا تم إخضاع الأعمال السيادية للقواعد والآليات القانونية المعتادة فإن ذلك سيعزز من قدرات السلطات غير الثورية والمناهضة للثورة والتحكم بالمشهد السياسي ، وحين يسود مفهوم الشرعية الثورية عند ئذ تتحول المعركة من هدف إسقاط رؤوس النظام المرتهن والعميل للخارج إلى هدف منع بقاياه من الالتفافىر على الثورة وإعادة إنتاج النظام.