لستُ مدينتكم.. ولا مُدْيَتكم

صلاح الشامي
صدّرَتْ بندقيةً عدةَ دفقات من رصاصاتها باتجاهي، أنا الموبوء بحبك يا تعز، جئتك خالياً مني أنا، مليء بك وحدك،، جئتك علّي أتكئ على مسطبة مطعم “عبده عصب” في الجحملية، أو أشتري “مشقر” من ” صبرية” عجوز تفترش رصيف الشارع المتفرع إلى ثلاثة اتجاهات، احدها يؤدي إلى بيتي المتواضع، الذي لم أجده، كما لم أجد ملامحك البهية، وسط كل هذا الركام والخراب الذي تعمد القضاء على كل ما يميزك بين مدن الدنيا، بغنجك القروي، ونبرتك المدنية عالية الثقة.
جئتك علّيْ أشُمُّ رائحة خبر البيوت المتلاصقة، أو ربما أحظى بقليل من “البرعي” مع الكدم من يد “عم محمد” قبل شراء كأس شاي من مقهى “مَخَسّو” ثم استأنف جولتي، قبل أن توقفني مجموعة من الملثمين الحمقى الذين أحالوا مدينتي إلى ثكنة عسكرية، ومتارس متداخلة.
– إلى أين تذهب؟
– لست أعلم .. جئت كي أقبِّلْ حَصى مدخل حارتنا، فلم أجد حارتنا ..، ترى أين اختفت.
لكزني ذلك المجند بفوهة البندقية في خاصرتي، قائلاً: أنت منهم؟
– نعم أنا من أبناء هذه الحارة .. نعم أنا منهم.
– لا تلعبش بالكلام .. أنت حوثي..!!
كنت سأجيب بنعم، لولا تذكري أزيز رصاصاتهم قبل قليل وهي تئن حزناً قرب أذنيَّ، ربما انطلقت مجبرة، لكنها مثلي ترثي لحال المدينة التي دمرت بأيدي أبنائها.. بالتعاون مع أبناء الكلب.
– اسمك، بطاقتك، تلفونك..
– كانت بطاقتي مرهونة لدى ” مقوت” وتلفوني حرق في اليوم السابق، لذا كان من حسن حظي أن استطعت إخفاء اسمي، وأعطيتهم اسماً من الأسماء المشتهرة في الحارة.. استعرت اسم أحد جيراني القدامى. غادر تعز دون عودة منذ كنت صبياً ألعب جوار أبواب البيوت القديمة، غادر مع أسرته، ولم يتبقّ إلا ذكرياته، وقطتهم المسكينة، تمؤ بجوار الباب المغلق لأيام، حتى استأجرت البيت أسرة أخرى، طردت القطة المسكينة، فأخفيتها أنا في سطح بيتنا، وكنت أخفي نصيبي من ” اللحمة أو الدجاج” على مائدة الغداء كل يوم تحت لقمة، وكانت بانتظاري كل يوم كذلك، حتى اعتاد عليها من في البيت، فكانت تتناول وجبتها قريباً منا.
تركوني وهم يتضاحكون بأن تبقى لدي ” رومانسية”- حد قولهم – في هذا الزمن، وقالوا أني لا أصلح لحمل السلاح، ولو كنت، لا عطوني سلاحاً وجعبة ومترساً ومصروفاً يومياً، ولكن ( الحوثة) حسب تعبيرهم ( مايشتوا إلا رجال أشداء لمواجهتهم، وما يشتوش أوادم غلط مثلي يتأوهون على المنازل المدمرة).
غنمت نفسي بالفكاك منهم، وقررت اختصار بكائيتي المفجوعة على مدنيتي، وهي تستلقي مثخنة بالجراح، وتتلقى المزيد، وكدت أعزي نفسي بفقدها وأنا أغادرها، لولا أنها أوحت لي شفاهاً أنها لم تمت، ولن تموت.. إنها تسخر من أولئك الذين يريدون التعجيل بقتلها، وإهدائها ذبيحة إلى أعدائها.. وجدتها تخفي سر حياتها عنهم، تعطيهم صدرها الفاتن، وتقول لهم: اطعنوا ما شئتم، لن تزيد طعناتكم قلبي إلاّ نبضاً، وسوف أتبرأ منكم، فلستم أبنائي أيها الجناة..
لست مدينتكم، ولا مُدْيتكم التي تسلونها على أبناء وطنكم..
أنا تعز.. مدينة كل اليمنيين.

قد يعجبك ايضا