–
أولاٍ : الأساس الشرعي لإنشاء النيابة العامة
تبرز أهمية دور أعضاء النيابة العامة في مجال العدالة الجنائية من حيث المهام المناط بهم وتوصف هذه المهام من وجهة النظر في الفقه الإسلامي بنظام الحسبة وتعرف الحسبة بأنها : أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وأساس ذلك قول الله تعالى : ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(1).
ولقوله سبحانه وتعالى : ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر))(2).
ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((من رأى منكم منكراٍ فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))(3).
وهذا وإن صح من كل مسلم إلا أنه قد عرف التاريخ الإسلامي تطويراٍ لنظام الاحتساب حتى ظهر ما يعرف بالمحتسب “المعين” أي الذي يعينه ولي الأمر بالقيام بهذه الوظيفة وقد عدد القاضي أبو يعلي محمد بن الحسن الفراء الحنبلي تسعة فروق بين المحتسب المتطوع والمحتسب المعين أظهرها أن قيام المحتسب المعين بمهامه واجب لا يصح أن ينشغل عنه بعمل آخر في حين أن المحتسب المتطوع إنما يقوم بوظيفة الاحتساب على سبيل التطوع فهو من قبيل النوافل الذي يجوز التشاغل عنه بغيره وأن الأول منصوباٍ لسماع الشكوى وإجابة من اشتكى إليه وأن يتخذ أعواناٍ لمساعدته وأن يفرض بعض العقوبات التعزيرية ولا يتجاوزها إلى الحدود وأن يكون له أجر يرتزق منه من بيت المال وليس للمحتسب المتطوع كل ذلك(4).
وبمقارنة هذا الإيضاح الوجيز لوظيفة المحتسب في الفقه الإسلامي نجده لا يختلف كثيراٍ عما وصل إليه المجتمع الحديث من تطوير لوظيفة النائب العام في أرقى تعريف لمهامه المناطة به وتوصف هذه المهام على نحو ما ورد في توصية المجلس الأوروبي بشأن دور النيابة العامة في نظام العدالة كما يلي :
((أعضاء النيابة العامة سلطات عامة يعملون بالنيابة العامة عن المجتمع ومن أجل الصالح العام لضمان تطبيق القانون حيثما وجد انتهاك للقانون يستتبع عقوبة جنائية آخذين في الاعتبار كلاٍ من حقوق الفرد والفعالية اللازمة لنظام العدالة الجنائية))(5).
وواضح من هذا التعريف أن عضو النيابة العامة لا يمثل نفسه أو أية سلطة سياسية وإنما يمثل المجتمع ويعمل من أجل الصالح العام وعلى الرغم من أهمية هذا الدور الذي يضطلع به عضو النيابة العامة في كافة أنظمة العدالة الجنائية فهناك اختلافات في المهام المسندة إلى كل واحد منهم بموجب القوانين الوطنية للعدالة الجنائية في كل بلد على حدة , ويختلف الوضع المؤسسي لعضو النيابة العامة بشكل كبير من بلد إلى آخر :-
1- من حيث علاقته بالسلطات التنفيذية بالدولة (والتي يمكن أن تتراوح ما بين التبعية والاستقلال).
2- من حيث العلاقة بين أعضاء النيابة العامة والقضاء (ففي حين نجد في بعض الأنظمة أن كلاٍ من النيابة العامة والقضاء ينتميان إلى جهة مهنية واحدة نجدهما ينفصلان تماماٍ في أنظمة أخرى).
3- من حيث العلاقة بالشرطة : ((ففي بعض البلدان نجد أن الشرطة مستقلة تماماٍ عن النيابة العامة وتتمتع بقدر كبير من السلطة التقديرية ليس في إجراء التحقيق فحسب بل أيضاٍ في معظم الأحيان في البت فيما إذا كانت ستقوم بالملاحقة القانونية من عدمه وفي بلدان أخرى يخضع عمل الشرطة لإشراف عضو النيابة العامة ومن الممكن أن يتخد عضو النيابة العامة الخطوة الأولى ويلعب دوراٍ فعالاٍ في اكتشاف الجريمة)).
4- من حيث تنفيذ الأحكام : ((ففي بعض الولايات القضائية يتولى عضو النيابة العامة إصدار الأوامر التنفيذية لحكم المحكمة وفي الأحوال الأخرى يتولى الإشراف على التنفيذ في حين لا يلعب أي دور على الإطلاق في أحيان أخرى))(6).
وعلى سبيل المثال في نظام قضاء الأحداث نجد الكثير من التشريعات , ومن ذلك التشريع اليمني ينحسر فيه دور عضو النيابة العامة على مجرد الإشراف على التنفيذ وتتولى المحكمة المختصة إصدار الأوامر التنفيذية في حين أنه في القضايا الجنائية الأخرى النيابة العامة هي المختصة بإصدار أوامر التنفيذ كما يتميز التشريع اليمني بشأن تنفيذ القصاص والدية والأرش إذ لا تبادر النيابة العامة إلى ذلك إلا إذا طلب المجني عليه أو ورثته ذلك طبقاٍ لأحكام الشريعة الإسلامية ووفق إجراءات محددة قانوناٍ تمنح رئيس الجمهورية حق إصدار الأوامر التنفيذية وكذلك الحال بشأن تنفيذ عقوبة الحدود والإعدام تعزيراٍ (7) .
ثانياٍ : الأساس الشرعي للوظيفة القضائية للنيابة العامة
يبين أبو يعلي محمد بن الحسن الفراء في كتابه الأحكام السلطانية الأوجه التي يتفق فيها المحتسب مع القاضي والأوجه التي يختلف معه فيها فهو متفق مع القاضي فيما يجوز له النظر فيه من الدعاوى التعزيرية دون الحدود وإلزام المدعى عليه الخروج من الحق الذي عليه ويختلف عن القاضي في كون القاضي مختصاٍ بسماع عموم الدعوى الخارجة عن ظواهر المنكرات وسماع الدعاوى في الحقوق سواء كانت تلك الحقوق معترفاٍ بها من الخصم أم كان منكرا ويزيد المحتسب عن القاضي في واجبه في التحري عن المنكرات والتصفح عن ما يأمر به من المعروف وأن للمحتسب ما ليس للقاضي من سلاطة السلطنة واستطالة الحمأة (الغلظة) في حين أن القاضي وضع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخص .
ومما يلاحظ أن تصنيف مهام المحتسب ضمن الوظائف القضائية أولى من أي تصنيف أو تبعية أخرى ,لاسيما وأن الاتجاهات الحديثة في النظم القضائية تقصر وظيفة القاضي في سماع بعض الدعاوى فقط وهو ما يعرف بالتخصص وبذلك يتلاشى أهم الفروق بين القاضي والمحتسب كما يلاحظ أن دور المحتسب في الفصل في بعض الدعاوى والحقوق المعترف بها من قبل المدعى عليه يتفق تماما مع دور عضو النيابة العامة في إصدار الأوامر الجزائية في مواد المخالفات وفي الجرائم غير الجسيمة ( الجنح) إذا كانت العقوبة بالغرامة أو بالتخير بين الغرامة والحبس وكذلك فيما أْسند إليه من صلاحية في إصدار قرارات بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية لأي سبب من الأسباب القانونية أو الموضوعية تعد بمثابة أحكام قضائية وتعد تلك الأسباب أسبابا للحكم القضائي بالبراءة , لذلك ولغيرها من الأسباب عدلت العديد من التشريعات إلى اعتبار النيابة العامة هيئة قضائية ينطبق على أعضائها ما ينطبق على قضاة الحكم من الحقوق والواجبات وتعتبر النيابة في الكثير من الأنظمة القضائية الرافد الأساس لقضاء الحكم .
القاضي/ شائف علي محمد الشيباني
1 – آل عمران 104
2 – آل عمران 110
3 – رواه مسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4 – الأحكام السلطانية دار الفكر للطباعة والنشر صححه وعلق عليه /محمد حامد الفقيه من علماء الأزهر الشريف حقوق الطبع محفوظة 1406هـ – 1986م ص 284 وما بعدها.
5 – توصية اللجنة الوزارية رقم (200 – 19) بشأن دور النيابة العامة في نظام العدالة الجنائية واعتمدت في 6 أكتوبر 2000م.
6 – يراجع فيما ذكرناه دليل حقوق الإنسان الخاص بأعضاء النيابة العامة – الاتحاد الدولي لأعضاء النيابة العامة بالتعاون مع دار النشر وولف 2003م ص1- 2 .
7 – يراجع المادة 28 من القانون رقم 42 لسنة 1992مـ بشأن رعاية الأحداث والمادة 470 من القانون رقم 13 لسنة 1994مـ بشأن الإجراءات الجزائية .