سوق الملح .. مزار سياحي فريد وأنموذج لعراقة صنعاء القديمة
تقرير/عبدالباسط النوعة
تمثل الأسواق في أي مدينة عنوانا لديمومة الحياة فيها وحفاظا على بقاء أهلها لتوفير احتياجاتهم من جهة وتوفير مصادر دخل من جهة أخرى وتتعاظم أهمية الأسواق في المدن التاريخية فهي جزء هام من المكونات الحضارية للمدن التاريخية اليمنية ولا تخرج أبداً عن أسوارها والزائر للمدن التاريخية اليمنية سواءً كانت تلك المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي زبيد وصنعاء وشبام حضرموت أو حتى تلك المدن العشر التي لا زالت في قائمة الانتظار لدى منظمة اليونسكو لإدراجها ضمن قائمة أو تلك التي لم يلتفت لها وهي كثيرة وتمتد بامتداد الأرضي اليمنية معظمها لديها أسواقاً ضمن مكوناتها بل وكانت لهذه الأسواق مكانة تجارية وضمن حركة التجارة التي ترتبط باليمن بشكل كامل وتتعداه لدول أخرى على طريق التجارة الذي كان معروفاً بطريق الحرير,وكانت تلك الأسواق في معظمها منتجة تصدر إلى أسواق أخرى خارج اليمن, وكانت بعض الأسواق في المدن التاريخية تشتهر بصنوف حرفية أو صناعية معينة, فمثلاً في مجال المشغولات الحرفية كانت الدورة كاملة بداياتها ونهايتها في هذه الأسواق, ففي البادية يتم استخراج الخيوط من جلود الأغنام والماعز وتباع في الأسواق التي بدورها تعمل من هذه الخيوط ملبوسات ومفروشات ومنسوجات مختلفة, كل بحسب عادات وتقاليد البيئة التي يعيش فيها, فكما هو معروف أن المشغولات اليدوية من أزياء وحرف تختلف من منطقة إلى أخرى, وهذا ما يفسر تنوع واختلاف الأزياء والحرف اليمنية, الأمر الذي خلف لنا كل هذا الثراء قي مجال الحرف والمشغولات اليدوية، ولكن ما يؤسف له أن الأسواق الشعبية لم تعد بتلك الأهمية والترابط بالمكان الذي شهد ميلادها الأول وجمعها تاريخ مشترك امتد لعصور سالفة فمعظم المدن التاريخية هجرتها الأسواق وتركتها باحثة عن أماكن أخرى قد لا تكون بعيدة عنها ولكن خارجها وهنا تؤكد الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية أن الأسواق كانت أحد أهم المكونات الحفاظية للمدن التاريخية وبقائها ضمن النطاق الجغرافي للمدن يساعد على استمرارية وديمومة هذه المدن.
تأهيل أسواق المدن التاريخية
وهنا تؤكد الهيئة بأن إعادة تفعيل وتأهيل هذه الأسواق مهم جداً في عملية الحفاظ على المدن التاريخية كونه أحد مكونات دورتها الحياتية.. وقد تكون مدينة صنعاء القديمة أحسن حالاً بفضل استمرار هذا الترابط بينها وبين سوقها القديم المشهور بسوق الملح والذي يشغل مساحة كبيرة ضمن النطاق التاريخي للمدينة, والجميل في هذا السوق الكبير هو الترتيب والاختصاص فهو عبارة عن أسواق متعددة كل سوق يختص بمهنية أو منتجات معينة مثلا سوق المحدادة – سوق الجنابي – سوق المنقالة “للحبوب” – سوق المنجارة – سوق البهارات – سوق البز “الأقمشة” وغيرها من الأسواق التي يحتاج كل سوق ويستحق أن تكتب عنه كتب ومجلدات وزاد جمالاً هذا السوق على جماله هي تلك السماسر والحانات التي كانت بمثابة الفنادق وبعضها اماكن للصناعات ومتاجر لأصحاب الحرف الأصيلة ووحدها سمسرة محمد بن القاسم التي تعرضت للدمار بفعل الإهمال الذي يتزايد باستمرار وأن كانت جدرانها الخارجية قائمة إلا أن داخلها مدمر ويدمر باستمرار ، والجهات المعنية في سبات عميق وقد نصحو ذات صباح وقد اندثرت هذه السمسرة وهذا المعلم التاريخي الفريد في قلب السوق كما ان تخصيص الجزء الذي لازال قائما منها ليكون قسما للشرطة خطوة ساهمت في تدمير هذه السمسرة الرابضة كقلعة شامخة .
سوق الملح بصنعاء القديمة
لا يمكن لأي سائح أن يأتي إلى صنعاء إن لم يكن إلى اليمن دون أن يزوره ويقتني منه أشياء مستوحاة من التراث اليمني لتكون ذكرى له تذكره بصنعاء واليمن بشكل دائم ومن هنا يستفيد عدد كبير من اليمنيين الذين يبيعون مثل هذه الأشياء، ويعتبر المختصون والمعنيون ومنهم المهندس نبيل منصر سوق الملح أحد أهم الأسباب في الحفاظ على صنعاء القديمة فلا يزال ينبض بالحياة وأعمال البيع والشراء وكان ولا يزال مقصداً للكثير من الزوار الذين يأتون إليه سواء تجاراً أو مستهلكين سواء من صنعاء أو من المناطق المجاورة لها.
استحداث محلات
في منازل تاريخية
إلا أن مشكلة بدأت ملامحها تنتشر في معظم أحياء وحارات صنعاء القديمة تمثل خطورة على هذه المدينة وهو سعي الكثير من الأهالي إلى إحداث فتحات كبيرة أسفل منازلهم “دكاكين ومحلات” مع أن المتعارف عليه أن الدكاكين والمحلات فقط في السوق الذي ليس ببعيد عنهم فلم يكن للمحال أي تواجد في المدينة القديمة أو أسفل المنازل التاريخية فقط مكانها الطبيعي على مدى الفترات الزمنية الماضية سوق الملح الذي يعد أنموذجا مبهرا في تنظيمه وترتيبه فهو عبارة عن أسواق كثيرة ومتعددة كل سوق مخصص لسلعة أو صنعة أو منتج معين، وقد حذر الكثير من المعنيين من خطورة استحداث فتحات كبيرة أسفل المنازل التاريخية، ومن هؤلاء المهندس جميل شمسان رئيس المكتب الفني بوزارة الثقافة ورئيس هيئة الحفاظ على المدن التاريخية سابقاً حيث شدد على خطورة فتح مثل هذه الفتحات وآثارها المستقبلية المدمرة على أساسات منازل ومباني صنعاء القديمة.
وهنا كان لابد على الجهات المعنية أن تقوم بدورها في حماية منازل صنعاء القديمة من هذا الخطر فإذا كان الأهالي يتحملون بجهلهم جانبا من المسؤولية فالجهات المعنية تتحمل مسؤولية أكبر إذ كان عليها أن تمنع مثل هذه الاستحداثات وأن تقوم بتوعية الأهالي بخطورتها على منازلهم .
وإذا كان سوق صنعاء القديمة لا يزال محافظاً على علاقته بالمدينة فهناك مدن تاريخية أخرى كثيرة أصبحت أسواقها خاوية ودكاكينها مقفلة ومهدمة ، وعلى سبيل المثال لا الحصر زبيد الذي انتقل السوق إلى خارج أسوارها وساهم بهذا الانتقال في الحالة السيئة التي وصلت إليه هذه المدينة وتعالت الأصوات بضرورة إعادة السوق إلى سابق عهده وتم ترميم العديد من المحلات التي في معظمها أوقاف لهذا الغرض إلا أن شيئاً لم يحدث لازال السوق خارج الأسوار ولا زال سوق مدينة زبيد خاوياً باستثناء بعض الباعة الذين يفتحون محلاتهم لبعض ساعات ويغلقونها لعدم وجود حركة بيع وشراء ومعظم الدكاكين هجرها أصحابها باحثين عن مكان يوفر لهم الرزق فكان السوق الجديد أنسب الأماكن لهم”وهنا يقول المهندس المعماري والمتخصص في معمار المدن التاريخية لدى منظمة اليونسكو بالمركز الإقليمي بالبحرين “للمهندس كمال بيطار” أن إعادة السوق إلى ما كان عليه يعد أمراً بالغ الأهمية للإسهام في تحسين الظروف الحفاظية لمدينة زبيد.
أسواق خافتة
وهناك أسواق خرجت من المدن التاريخية تاركة وراءها خراباً وفراغاً كبيراً امتد إلى الكثير من الأحياء والشوارع ومنها مدينة ذي السفال القديمة الذي تحولت أجزاء كبيرة من سوقها القديم إلى مقالب للقمامة ومكبا للنفايات، كذلك شعرنا بحرقة وألم عندما زرنا سوق مدينة الطويلة بالمحويت سوق جميل للغاية لازال محافظا على طابعه المعماري لكن دكاكينه وحوانيته مغلقة تشكو الهجران من قبل أصحابها الذين اضطروا إلى البحث عن محلات خارج المدينة القديمة وكم شعرنا بالفخر عندما علمنا أن أحد المتاحف الأوروبية يحوي مجسما مصغرا لسوق الطويلة نفذه أحد الفنانين الأوروبيين الذين زاروا هذا السوق وأعجب به كثيرا وغيرها من الأسواق الشعبية التي لازالت تؤدي دورها وأخرى هجرت وهي الأغلب، إلا أن سوق الملح بصنعاء القديمة يظل العنوان الأبرز الذي ينبغي أن نحافظ على نشاطه ونهتم بتلك الأسواق الصغيرة التي تقع في إطاره ولكنها باتت تنحدر نحو الهجران والإغلاق ومنها سوق المحدادة التي باتت أغلب محلاته مغلقة ولهيب نيرانه باتت خافتة وبحاجة إلى خطة لإنقاذه .