عبد الله زغيب
لا يملّ المنخرطون في تشريح الأزمة اليمنية من عملية إعادة إنتاج السرديات، والعمل على تأطيرها بما تستوجب المرحلة وما يقتضيه الزمن بمتغيراته كافة، انطلاقاً من خلفيات الجميع، عقائدية كانت أم طائفية أم حتى قبلية وجهوية وسياسية. لكن المنتج النهائي لجزئيات الصورة المكوّنة للمشهد اليمني، تثبت وجود حتميات لا مهرب منها. فالتحكّم بنسق الحدث وتصديره، بناء على فارق القوة وفارق الوزن الإقليمي والدولي، لا يمكن أن يُفضي الى توقع حقيقي، ولا الى نتائج مدركة. والأمور لم تقترب من خواتيمها بعد. والواضح أن للساحة اليمنية واقعيتها المستترة خلف جبال جردية بما تحمل من مفاجآت في أجوافها، ولا تنفع القراءة «الفوقية» في إدراك طبيعة الأرض قبل البحث حتى في تركيبة السائرين عليها. هكذا جاءت خطوة «الانكباب» السعودي بفائض حماس وفائض ثقة داخل الساحة اليمنية، انطلاقاً من حسبة بسيطة، مرتكزة على ميزان تميل كفته لمصلحة الرياض في الاقتصاد والعسكر والعلاقات العامة. لكن الرياض في إصرارها على اعتماد الظـــاهر والمتوارث من علوم العسكر والسياسة، أغفلت قدرة كامنة هائلة يمتلكها اليمن بمعزل عن هوية صاحب القول فيها، خاصة أن البلاد بنسختها الحالية المجزأة والمشتتة، ما زالت ترتكز الى عــناصر تبدلت فيها شـخوص الكلمة الأخيرة، لكنها ببنيتها الاجتماعية وحتى المذهبية لم تتغيّر، منذ عقود خلت.
«الحزم» غير المتوقع
في 26 آذار 2015، فاجأت الرياض خصومها في الساحة اليمنية بسلسلة ضربات جوية، لم تكن ضمن توقعاتهم، على الأقل في الحيّز الزمني القريب، الذي دخلت فيه «عاصفة الحزم» مرحلة التطبيق العملي. وقتها عاش الحوثيون، ومعهم الحليف «الأكبر» الرئيس السابق على عبدالله صالح، ساعات حامية، انشغل فيها الجميع بعملية تأمين القيادات والبنية التحتية اللازمة لإدارة عملية طويلة الأمد. فالحوثيون وحليفهم على ما يبدو، كانوا الوحيدين ممن بنوا خياراتهم في تلك الأيام على مبدأ أن الحرب مع الرياض ستكون حرباً مفتوحة وطويلة. فهم، دون غيرهم، كانوا مدركين بشكل كامل لعناصر قوتهم ولعناصر قوة خصمهم. ومع حسبة بسيطة لفارق الضعف، أطلق «أنصار الله» والجيش اليمني سلسلة تحركات لاستيعاب الضربة الأولى، والخروج منها بما أمكن من «رصانة» قيادية، وقدرة عسكرية يمكن استثمارها في إدارة المقبل من معارك.
في الأسابيع الاولى للعمليات العسكرية السعودية، خاصة عمليات القصف الجوي، ركزت القوات اليمنية المشتركة على مبدأ السيطرة على الأرض، والانتشار الدائم تحسباً للضربات المقبلة من أعلى. هكذا، شهدت العمليات العسكرية في المحافظات الجنوبية تكثيفاً غير مسبوق، تمكن من خلاله الحوثيون وحلفاؤهم في الجيش اليمني من السيطرة على غالبية المحافظات المأهولة في المنطقة الجنوبية، في استكمال لما جرى منذ أحداث أيلول 2014، وسيطرة «أنصار الله» على العاصمة صنعاء ومعها مؤسسات الدولة اليمنية. فإلى حد ما، بدا الحوثيون غافلين عن استعداد سعودي للخوض في الميدان البريّ، على أن لا يتخطّى الانخراط «العربي» مسألة الضربات الجوية، وهي، مهما بدت قاسيّة ومدمّرة، إلا أن دورها في حسم المعركة من دون وجود قوات برية فاعلة، لم يكن ثقيلاً أو حتى قابلاً للبحث كخيار جدي. وهذا ما أثبت أن تحركات الرياض في سبيل تشكيل تحالف بري كانت جدية، بل وجديّة للغاية.
بداية الحرب: المعركة البرية
بين آذار وتموز 2005 فارق هائل في قراءة المشهد اليمني، انطلاقاً من وقائع الميدان بما فيه من معارك اشترك فيها الجميع بمعزل عن تحالفاتها وخلفياته. فبعد سيطرة الحوثيين والجيش اليمني على مطار عدن ثم غالبية المدينة نهاية آذار، وبقاء منطقتي البريقة وكريتر خارج سيطرة القوات المشتركة فقط، بدت المسألة أقرب الى «الحسم» النهائي من أي وقت آخر. هكذا بدأ الجيش اليمني بشكل خاص في تعزيز وجوده في منطقة الضالع لمحاولة احتواء المنطقة قبل خروجها بشكل نهائي عن السيطرة، خاصة أن الضالع تحتوي على آلاف الجنود السابقين المسرّحين من الخدمة، بعد قتالهم الى جانب الزعيم اليمني الجنوبي علي سالم البيض في الحرب الأهلية العام 1994، وقد تمّ تسريحهم على يد نائب الرئيس اليمني وقتها والرئيس الحالي لليمن عبد ربه منصور هادي. هكذا جاءت محاولة السيطرة على المنطقة لمنع ما قد يصل الى ثلاثين الف مقاتل متمرس ومدرب، من الانخراط في أي تشكيل يفضي في نهاية المطاف الى خلق وزن ثقيل لمصلحة «اشكالية» الجنوب والشمال بعناصرها «التقسيميّة» كافة. وهكذا، وفي الوهلة التي ظنّ فيها الحوثيون وحلفاؤهم أن الرياض عاجزة عن الانخراط البري، بدأت العملية بمفاعيلها الحقيقية والمباشرة على الأرض. وكان للقوات البرية السعودية والإماراتية الدور الاساسي فيها، وإن جاء التدخل البري مقسماً على عدد من المراحل. ولهذا ربما لم يظهر أثره بشكل سريع وحاسم، لكنه كان تدخلاً كافياً لتغيير وجهة الحوثيين وحلفائهم خلال اشهر قليلة. حتى جاء القرار بالتوقف عن القتال في عدن والانسحاب من غالبية المحافظات الجنوبية، لغياب الجدوى النهائية من الحرب هناك، معطوفاً على حجم الخسائر الفادحة التي تكبّدها الجميع، وخاصة القوات اليمنية المشتركة.
السعوديون و «فائض» القوة
أخطأ السعوديون في قراءة انسحاب القوات المشتركة من عدن ومناطق الجنوب، كما أخطأ خصومهم في قراءة حجم انخراطهم ومدى جديّة الرياض في الاستمرار، بل وتطوير وسائل انخراطها في المعركة. استشعر الطرفان ضعفاً في الجانب المقابل، وهو ضعف تحكم الى درجة كبيرة في طبيعة المقبل من خيارات. وبرغم أن هذا الاستشعار بُني على وقائع، الا انه أنتج وعياً غير سليم لما يمكن أن تذهب إليه الأمور. فقد ظنت الرياض، والى حد كبير، أن اليمن رقعة مجتمعية وعسكرية واحدة. هكذا افترضت أن التوغل في المحافظات الشمالية، سيكون عبارة عن انكسارات مزلزلة للجيش اليمني بفعل الضربات الجوية والتفوق النوعي في مختلف النواحي العسكرية. وهكذا راكم خطأ التقدير سلسلة طويلة من الخيارات غير السليمة، كان لها أثر مباشر في كسر «هيبة» المملكة العربية السعودية في «حديقتها الخلفية». فقد أثبتت الساحة «الشمالية» أن لها مساراً مختلفاً من البداية حتى النهاية، تتداخل فيها مجموعة متناقضات، تعجز عن حلّها أو تحليلها أعقد أدوات «التغلغل» في اليمن، إن من خلال الأحــــزاب صاحبة الامتداد الخارجي كحزب «الإصلاح»، أو من خلال ولاءات موقتة أو ظرفية من بعض شيوخ القبائل، خاصة في المناطق الوسطى.
تهدئة على طريق الحل
في نهاية المطاف، مع أن ملامح النهاية هذه لم تظهر بعد، ركن الجميع الى مجموعة من الحقائق غير القابلة للتغيير. فالرياض اقتنعت على ما يبدو، خاصة في جبهة الحدود المفتوحة، أن الصوت العالي لا يكفي على الإطلاق لفرض التفوق القتالي، مهما امتلك من أدوات دعائية قوية. فالواقعية بدت اليوم أقرب الى المخيّلة السعودية من الأمس، حيث «أوهام» الحزم السريع والعاصف. فقد بات للرياض أرض محتلة من دولة خارجية، وبشكل مباشر لا يقبل التأويل. فمناطق المملكة تقصف من داخلها، من الربوعة ومحيطها. كما أن قتلاها من المدنيين والعسكر تجاوزوا بضع مئات، وبأرقام وردت على لسان قيادة عمليات «الحزم». والأمر ينسحب على الطرف الآخر بمحيطه وبيئته الحاضنة، وإن بأثمان أكبر وأغلى. فيما تعكس خطوة «المهادنة» اعترافاً سعودياً وبالتالي دولياً بـ «أنصار الله» كحالة غير «مارقة» على الساحة اليمنية، بل ربما «الحالة» الأصيلة الواسعة الانتشار وصاحبة الوزن الفصل في طاولة الحل النهائي. وهذا يبدو أكثر «شهية» للمخيلة اليمنية من اعتبار عمليات التوغل والقصف في الداخل السعودي، بديلاً ناجحاً للردّ على الضربات الجوية، على أن تكون للقرارات «الشجاعة» هذه مفاعيل أكثر جرأة من ناحية صعدة وما يقابلها من أراضٍ سعودية، لتنسحب الرواية الى مناطق أعمق شمالاً، ولمَ لا، جنوباً أيضاً!
عن صحيفة “السفير” اللبنانية