حتمية الاهتمام بالقضية المائية : المبررات .. والانطلاقات


محمد العريقي –
دعوة الاهتمام بقضية المياه لها مايبررها , فالشواهد , والأسباب , والخطورة , تؤكد حتمية التدخل وعمل أشياء كثيرة لتلافي الدخول في مرحلة الهاوية .فإذا كانت توجهات الترشيد والتدبير لاستخدامات المياه تحظى باهتمام في الكثير من دول العالم التي تعيش على وفرة مائية كبيرة وتترجمها تلك الدول في مزيد من الخطوات والاجراءات..

فما بالك ببلاد مثل اليمن تعيش شحة في مصادرها المائية في الوقت الحاضر وفوق ذلك تتزايد فيها الاحتياجات المائية على مدار الساعة مع كل نشاط جديد يقام في منطقة يمنية ومع كل مولود جديد يقدم للحياة خصوصاٍ في ظل ظاهرة واقعية ومشهودة في مجتمعنا الذي يشهد معدلاٍ مرتفعاٍ في النموالسكاني.
إن هذين العاملين (شحة المياه وتزايد الاحتياجات منها على مدار الساعة) يمثلان التحدي الأبرز لقدراتنا الذهنيه والمادية… وهو تحدي تحقيق المواءمة بين الاحتياجات المتزايدة وبين الموارد المائية المتاحة للوصول الى تحقيق تنمية مستدامة في اليمن. خصوصاٍ أن مسألة تأمين الكميات الكافية من المياه للنشاط الاقتصادي تحتل أهمية خاصة إذ تلعب دوراٍ هاماٍ في مكافحة البطالة والفقر وخلق فرص العمل ليس فقط باعتبار أن حوالي نصف القوى العاملة في المجتمع اليمني تعمل في قطاع الزراعة ولكن ايضا لأهمية دور مياه الشرب النقية في المحافظة على الصحة العامة وانعكاسات الامراض المنقولة بالمياه على دخل الاسرة بالاضافة إلى أهمية توفر المياه النقية في تمكين الفتيات من مواصلة تعليمهن باعتبار أنهن مسؤولات عن جلب المياه المنزلية خصوصا في الريف.
فمظاهر الازمة المائية وتعدد أسبابها تبدو في اليمن بشكل واضح وجلي ومن هنا يتحتم على كل شرائح المجتمع وقطاعاته التعامل مع الوضع المائي بكل حكمة ومسؤولية.
والدعوة الى التدبير لا تعني السير باتجاه نقص حصة الفرد من المياه أو تقليص المساحة الزراعية ووقف الأنشطة التنموية وإنما العمل على حسن استخدام المياه المتاحة وتنمية مصادر جديدة حتى تستمر وتزدهر كل مظاهر الحياة ونضمن حراك التنمية المستدامة وتلبية احتياجات النمو السكاني والتقليل من حدة الازمة المائية التي نعيشها حالياٍ.
إن الأمطار التي تهطل في اليمن يتولد عنها سيول وتغذية للخزانات الجوفية تبلغ في المتوسط مليارين ونصف المليار متر مكعب من المياه بينما نستهلك ثلاثة ونصف مليار متر مكعب. ويتم تغطية الفارق باستنزاف الخزانات الجوفية. وضآلة التجديد السنوي تجعل من نصيب الفرد من المياه المتجددة أقل من 125 متراٍ مكعباٍ سنوياٍ بينما حد الفقر المائي يقدر بـ 500 متر مكعب سنويا. كما أن نصيب الفرد سوف يتناقص بسبب النمو السكاني. ويمكن لليمن ان تحسن من وضعها المائي بوضع توازن مائي يلبي كل الاحتياجات فلا يزال هناك خلل كبير في هذا التوازن إذ أن قطاع الزراعة يستحوذ على أكثر من 90% من الاستهلاك السنوي و50% من هذه الكمية تستخدم لزراعة القات. كما أن تدني كفاءة الري (اقل من 40 %) يعني أن نصف الإستهلاك السنوي من المياه يذهب هدراٍ بسبب اتباع الري بالغمر وعدم انتشار أنظمة الري الموفرة للمياه.
ويلخص بعض المهتمين المشهد المائي من خلال النقاط التالية :
•المياه التي تستخدم لأغراض الري تكاد تكون مجانية. مما يفقد المزارع أي حافز للترشيد.
•الفاقد في شبكات مياه الشرب يزيد عن 30%.
•تعرفة المياه للاستخدام المنزلي متدنية ولا تغطي تكلفة التشغيل والصيانة والاستهلاك.
•وإذا توقفنا أمام هذه المؤشرات بمسؤولية.. فإنه يجدر بنا أن نقوم بالعمل على رفع كفاءة الري والاستفادة من الفائض المائي في توفير احتياجات السكان من مياه الشرب اذ لايزال هناك تدنُ في مستوى خدمة المياه للاستخدامات المنزلية في بعض المدن (مرة كل 5-20 يوما). ولاتزال اليمن بحاجة الى زيادة نسبة التغطية بخدمات مياه الشرب والصرف الصحي في المناطق الحضرية والريفية وهو الأمر الذي يقتضي مزيداٍ من الترشيد في الري وفي المدن والريف..
•إننا بحاجة الى تدبير مائي لأن أمامنا العديد من التحديات منها :
•نموسكاني مرتفع 3% يتوقع معه أن يصل عدد سكان اليمن الى 40 مليون نسمة في العام 2025م.
•بعض الاحواض في المدن (صنعاء – تعز) مهددة بالجفاف وبعضها قد أوشك على النضوب التام (صعدة).
•السحب السنوي من معظم الاحواض المائية يزيد عن التجديد السنوي ففي عام 2000 كان السحب السنوي في حوض صنعاء مثلاٍ أربعة أمثال التغذية.
وبذلك تكاد اليمن تنفرد عن غيرها من البلدان التي تعيش في أزمة مياه وذلك لخطورة المشكلة.. اذ لا يوجد بلد في هذا العالم تتعرض خزاناته الجوفية للنضوب بهذه السرعة كما لا يوجد بلد في العالم عاصمته مهدده بنضوب المياه عنها في غضون عقد أو عقدين من الزمن. ومما يضاعف من حدة المشكلة محدودية القدرات المادية والفنية التي كان يمكن ان تسهم في تخيف حدة هذه الظاهرة.
•ونحن نتحدث عن التدبير ليس من المعقول ان نطالب بالعودة إلى الأوضاع البدائية في كل الاستخدامات فالاحتياجات المائية في عصرنا الراهن تتزايد وتتنوع ولكن لايمنع من الاستفادة من خبرات ومهارات أجدادنا ونحن نبحث عن طرق فعالة للترشيد والتقنين وخاصة في القطاع الزراعي الذي لايزال يغلب عليه طابع الممارسات الفلاحية التقليدية والذي حدث هو تطور في الإسراف في المياه وإهدارها وإهمال إدارتها بحكمة وعقلانية .
وياتي إلحاح التوجه للتدبير المائي من عدة معطيات سبق الاشارة اليها في الصفحات السابقه فاليمن يعيش أزمة مياه فعلية الآن ناهيك عن المستقبل ومن ثم فإن التدبير مطلوب ولابد ان يكون عاجلا وبأسرع ما يمكن.
وإذا كان هناك حاليا صعوبات مادية وفنية تحول دون القيام بإجراءات جذرية لتطوير قدرات قطاع المياه فإن ذلك لايمنع من اتخاذ خطوات وتبني مشروعات كبيرة كجزء من التدبير المطلوب حتى وإن كانت هذه الاجراءات والمشروعات مكلفة ماديا واجتماعيا وحتى لو تضررت بعض المصالح الخاصة. فضرورة الحياة والمبادئ الاخلاقية تقتضي التدخل بالمعالجات اللازمة ووفق الامكانيات المتاحة. والواقع ان هناك الكثير مما يمكن القيام به بالإمكانيات المتوفرة إذا ما أحسنا استغلالها بشرط ان تتوفر الإدارة الفاعلة المدعومة بإرادة جماعية.
إن عدداٍ من الباحثين والمهتمين يلخصون المعطيات التي يستوجب من خلالها التدخل وإدارة المياه بحكمة واتخاذ كل اساليب التدبير والترشيد من خلال النظر الى ثلاث مشكلات رئسية وهي:
•أن هناك استنزافاٍ خطيراٍ للمياه الجوفية.
•أن هناك مدناٍ أحواضها الجوفية معرضة للنضوب وبالتالي يصعب تأمين حاجتها من المياه.
•أن هناك الكثير من السكان في الحضر والريف مايزالون بحاجة إلى تزويدهم بالمياه الصالحة للشرب.
وإذاٍ فإن البلاد لا تستطيع الاستمرار في العيش على حساب رأس مالها المائي. فالنضوب التام للموارد ليس بالأمر المستقبلي البعيد وانما هو أمر قريب. ولهذا لابد من الاخذ بالإصلاحات التي ستؤدي الى الرجوع باستخدام المياه نحو الاستدامة.
إن كل أمة من الأمم تتخذ لنفسها القرارات التي تراها مناسبة للحد من استنزاف مواردها الطبيعية ويتمثل التحدي الحقيقي في اتخاذ مثل هذه القرارات في مدى تقبل أفراد المجتمع لتطبيقها والالتزام بها.
إن الطريقة الوحيدة التي يمكن تصورها للسيطرة على سوء استغلال المياه الجوفية تتمثل في استقطاب المستخدمين وإدخالهم في شراكة كأمناء على الموارد مشاركين فيها ولكن حتى هذه الحلول لا شك انها ستكون شاقة وبطئية التنفيذ ولن تأتي بثمارها الا بعد حين. ومع ذلك لابد من مواجهة التحدي لكي لا تتحول البلاد الى صحراء.. فالإجراءات التي تأتي بحلول جزئية أفضل من الفاجعة التي ستترتب على عدم اتخاذ أي إجراء.

قد يعجبك ايضا