المنهج العلمي لتحقيق المخطوطات

تمتلك بلادنا ثروة هائلة من المخطوطات ولكن هذه الثروة العظيمة التي تحوي قيمة لاتقدر بثمن، إلا أن هذه القيمة للأسف الشديد لاتزال مجهولة وغير معروفة، وذلك بسبب قصور التحقيق والنشر لهذه المخطوطات حتى على مستوى الجامعات والمراكز البحثية المتخصصة، ولهذا لابد من ايضاح المنهج العلمي لتحقيق المخطوطات ليكون في متناول المهتمين والباحثين فالتحقيق العلمي للمخطوطات يتم عن طريق خطوات منهجية أهمها:
أولاً: أصول النصوص:
إن أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة عنوان الكتاب، ومؤلفه، وجميع مادة الكتاب، على آخر صورة رسمها المؤلف وكتبها بنفسه، أو يكون قد أشار بكتابتها أو أملأها، وأجازها، ويكون في النسخة مع ذلك ما يفيد اطلاعه عليها، أو إقراره لها.
وهنا أمر قد يوقع المحقق في الخطأ، وهو أن بعض الناسخين قد ينقل عبارة للمؤلف في آخر الكتاب وهي المعتادة، نحو “وكتب فلان” أي المؤلف، ولا يشير الناسخ أو يعقب على ذلك بما يشعر القارئ أنه نقل ذلك من النسخة الأصل، فيظن القارئ أنها نسخة المؤلف، هذا إشكال يحتاج إلى فطنة المحقق وخبرته بالخط والتاريخ والورق.
أيضاً من أصول النصوص النسخة الأم المأخوذة منها، ثم فرعها، ثم فرع فرعها وهكذا.
وكذلك لدينا المسودات والمبيضات، يراد بالمسودة النسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذبها، ويخرجها سوية، أما المبيضة النسخة فهي التي سويت، وارتضاها المؤلف كتاباً يخرج للناس في أحسن تقويم.
ومن السهولة أن يعرف المحقق مسودة المؤلف بما يوجد فيها من اضطراب الكتابة، واختلاط الأسطر، وترك البياض، والإلحاق بحواشي الكتاب، وأثر المحو والتغيير وغير ذلك، ومسودة المؤلف إن ورد نص تاريخي على أنه لم يخرج غيرها كانت هي الأصل الأول مثال: كتاب يحيى بن الحسين بن القاسم “بهجة الزمن في تاريخ اليمن” في ثلاثة مجلدات، تعتبر النسخة الأصل مالم تعارضها المبيضة إن وجدت.
نوع آخر من أصول النصوص هو مبيضة المؤلف فهي الأصل الأول، وإذا وجدت معها مسودة كانت المسودة أصلاً ثانوياً يستأنس بها المحقق لتصحيح القراءة فحسب.
كما أن وجود نسخة للمؤلف لايدل دلالة قاطعة أنها النسخة التي اعتمدها المؤلف، فبعض المؤلفين يؤلف كتابه أكثر من مرة، وإذا استعملنا لغة الناشرين قلنا إنه قد يصدر بعد الطبعة الأول، فالجاحظ ألف كتاب “البيان والتبيين” مرتين، كما ذكر ياقوت الحموي في “معجم الأدباء” وقد ذكر أن الثانية أصح وأجود.
وكتاب الجمهرة لابن دريد قال ابن النديم في الفهرست “مختلف النسخ، كثير الزيادة والنقصان” لأنه أملاه بفارس وأملاه ببغداد من حفظه، فلما اختلف الإملاء زاد ونقص”، ثم قال: وآخر ما صح من النسخ نسخة أبي الفتح عبدالله بن أحمد النحوي، لأنه كتبها من عدة نسخ، وقرأها عليه”.
وهذه سابقة قديمة في جواز تلفيق النسخ ونص ابن النديم في الفهرست على أن موادر الشيباني ثلاث نسخ: كبرى، وصغرى، ووسطى، وهذا يبين أن نسخة المؤلف قد تكرر، ولا يمكن القطع بها ما لم ينص هو عليها.
منازل النسخ:
مما سبق يمكن ترتيب النسخ في درجات:
الأولى نسخة المؤلف والثانية النسخة المنقولة منها، ثم فرعها ثم فرع فرعها وهكذا.
والثالثة النسخة المنقولة من نسخة من المؤلف جديرة بأن تحل في المرتبة الأولى إذا لم نعثر على نسخة المؤلف.
والربعة: إذا اجتمعت لدينا نسخ مجهولات سلسلة النسب يجب مراعاة المبدأ العام وهو الاعتماد على قدم التاريخ في النسخ المعدة للتحقيق, مالم يعارض ذلك اعتبارات أخرى تجعل بعض النسخ أولى من بعضها في الثقة والاطمئنان, كصحة المتن, ودقة الكتاب, وقلة الإسقاط، فقد نجد نسخة أحدث تاريخاً وكتبها عالم دقيق, يظهر ذلك في حرصه وإشاراته إلى الأصل, فتقدم النسخة الأحدث تاريخاً.
طريقة جمع الأصول:
من البديهي أنه من غير الممكن أن نعثر على جميع المخطوطات التي تخص كتاباً واحداً إلا على وجه تقريبي، فمهما أجهد المحقق نفسه للحصول على أكبر مجموعة من النسخ, فإنه سيأتي بعده من يعثر على نسخة أخرى, فعليه أن يبحث في فهارس المكتبات العامة والمكتبات الخاصة, حتى يطمأن المحقق أنه قد حصل على قدر صالح مما يريده من النسخ.
فحص النسخ:
الخطوات التي يجب على محقق المخطوطات أن يتبعها خلال فحص النسخ:
على المحقق أن يدرس ورق المخطوطة ليتمكن من تحقيق عمرها, ولا يخدعه ما يثبت فيها من تواريخ قد تكون مزيفة.
يدرس المداد, ليتضح له قرب عهده أو بعد عهده.
الخط, لأن لكل عصر نهجاً خاصاً في الخط, ونظام الكتابة.
عنوان الكتاب, وما يحمل صدره من إجازات وتمليكات وقراءات.
قد يجد المحقق في ثنايا النسخة ما يدل على قراءة بعض العلماء أو تعليقاتهم.
فحص أبواب الكتاب وفصوله وأجزائه, حتى يتأكد من كمال النسخة وصحة ترتيبها – كما رأيتم خلال عملكم في التوثيق والفهرسة – فإن كثيراً من الكتب يلتزم نظام التعقيبة وهي الكلمة التي تكتب في أسفل الصفحة اليمنى غالباً لتدل على بدء الصفحة التي تليها, هذه التعقيبات تمكن المحقق من الاطمئنان إلى تسلسل الكتاب.
وأن يقرأ خاتمة الكتاب, لعله يتبين اسم الناسخ, وتاريخ النسخ, وتسلسل النسخة.

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة صنعاء

قد يعجبك ايضا