رواية لعنة الواقف والترميز
الغربي عمران

تسعة فصول من المتعة.. “لعنة الواقف” رواية للمبدع المتجدد بسام شمس الدين صادرة في بداية 2014م.. صنعاء.
وحسب ذائقتي المتواضعة فإن العمل الروائي الذي يقدم لنا بيئة مختلفة وعوالم مغايرة عمل يمتاز بالبقاء والديمومة في وجدان القراء.. وقد قدم لنا الكاتب لعنة الواقف أولا من خلال عنوانها الملتبس.. والذي يمثل نجاحا رئيسا لاصطياد قارئ محتمل.. وأنا ممن اصطادني الكاتب حين لاحظتها على أحد أرفف كشك الحوار بذمار.. شدني العنوان لأقضي أياما من شهر رمضان المبارك ضمن قراءة عدد من الأعمال السردية.. ولذلك هو الشكر للكاتب على تلك الأجواء المتمعة.. وثانيا تلك العوالم التي قليلا ما يعالجها كتابنا.. وذلك المكان وتلك الشخصيات.. وهذا هو سر نجاع “لعنة الواقف”.
ثم أن الزمن الذي عالجت الرواية قضاياها يبدأ بما قبل ثورة 1962م ثم تستمر الرواية إلى ما بعدها.. حيث اختار الكاتب مجتمعا ريفيا كمسرح لروايته.. مستهل بحوار بين ناصر وصي المقبرة وبين الكاتب الذي دون تلك الأحداث حسب ما أملاها عليه ناصر.. أي أن السارد هو ناصر ابن القرية وحفيد الواقف ووريثه.. والكاتب هو المتلقي ابن الإعلام..
قدم لنا تلك البيئة الريفية المليئة بالأساطير والخرافات المتواشجة بالقيم الإيمانية.. ليشيع مسحة من السخرية راقفتني كقارئ حتى الأسطر الأخيرة لأبتسم تارة.. وتارة أقهقه.. فالكاتب وقد توارى خلف ناصر ينسج عمله كما ينسج الحائك المقتدر قطعته الفنية.. لكن ظهوره ظل بين فينة وأخرى من خلال تلك اللغة الشفيفة .. وإن كان ظهورا محمودا.
الترميز الذي تجلى في اختيار المقبرة كمحور تدور حوله الأحداث بتناميها المطرد.. وذلك الصراع بين شخصيات الرواية والمتمثل بناصر وصي المقبرة وعمته من جهة وصويلح أمين القرية من جهة أخرى.. وتلك القيم التي يدعون التمسك بها بينما تأتي أعمالهم وما يفكرون به في ما خفي من تفكير أو في ما يمارسون بعيدا عن الأعين نقيض كل ما يدعون.
لحظات القراءة كنت أسأل نفسي: كيف أمكن للكاتب أن يجمع عدة فنون في عمل واحد¿ أقرأ ويخيل إلي بأني أشاهد لقطات سينمائية درامية متلاحقة.. وتارة أخرى أجزم بأني في حضرة مشاهد مسرحية غاية في السخرية.. وما تلك الأحداث من اجتماع عقلاء القرية في علية الدار القديم.. وتلك الهيبة والجلال الذين خلعهم الكاتب على تلك الاجتماعات.. ثم مشهد البقرة وهي تمور في أنحاء المقبرة وقد وقف الجميع على الحدث بوجل وخوف شديد.. لتنتهي بذبحها وتوزيع لحمها للسكان الذين تركوا حصصهم للكلاب.. ومشهد السيل الذي اجتاح القرية.. وطمر مزرعة البن التي تجاور المقبرة ويعتبرها السكان جزءا من حرم المقبرة.. ومشهد “البلدلوزر” وهو يجتث شواهد القبور ويكوم الأتربة حول مزرعة البن.. منظر شجرة العرمة وقبة الولي صالح وقبر السيد موسى.. وكذلك شجرة ساحة القرية.. تلك وغيرها تؤكد قدرة الكاتب على تقديم عملا رائعا.
لا شك بأن الكاتب قدم لنا مجتمعا متحولا.. من خلال القرية.. وهو اختيار موفق وبذلك يقدم لنا مجتمعنا اليمني بكل مؤثرات التغيير فيه.. من خلال سكان القرية الضاجة بعدة شخصيات.. يختفي بعضها ليظهر الجديد.. ليتحول ذلك المزيج ويتغير كما هو حال سكان اليمن قبل الثورة وبعدها حتى اليوم.
الخمسون صفحة الأولى من الرواية ينهي الكاتب فيها جيلا بأكمله ما عدا “قبول” تلك المسنة التي نسيت أنها أنثى ليذكرها الفقيه عبدالقادر أن الصلاة بين الرجال في المسجد ليس للنساء.. فترد عليه “لقد نسيت أنني امرأة !” .. سكان القرية تحاصرهم كوابيس الموتى.. وهذه هي محور الأحداث وتناميها بعد ثورة سكان القبور نتيجة للاعتداءات المتكررة على قبورهم.
فلا يغمض لشخص جفنه ليلا إلا وتهبط عليه تلك الكوابيس ليقضي منامه في رعب وخوف.. استعان السكان بالمقرئين والمشعوذين.. دون فائدة.
غيروا مواعيد نومهم إلى شطر من النهار حتى تعودوا على ذلك.. لكن أرضهم صلبت وبارت وغزتها الأشجار ومواشيهم نحلت.. وأوضاعهم تغيرت إلى الأسوأ لجأوا للمسفل.. وقد خصصوا له حجرة طهروها بالرماد والملح ليرقد بها عاريا لأكثر من شهر.. لتهبط روحه في زيارة متكررة للأموات.. وبعد ذلك تعود بشروط قاسية على سكان القرية منها إزالة المنازل التي بنيت في أطراف المقبرة وإزالة المزارع المجاورة وتنظيفها من المخلفات وتسويرها.
لينقسم السكان إلى قسمين القسم الأول بزعامة قبول المرأة المسنة والتي تطالب بتنفيذ شروط الأموات..والقسم الآخر بزعامة صويلح أمين القرية ومالك مزرعة البن الملاصقة للمقبرة.. وهكذا بدأ الخلاف ليتطور إلى استخدام السلاح بين الطرفين.. بعد أن أخذت جماعة صويلح تجرف شواهد القبور.. وتطمس معالم المقبرة.
لم يكن الموت المتمثل بالمقبرة وتصرفات سكانها هو الحاضر الوحيد.. فالموت حاضر بقوة من خلال موت حكماء القرية من كانوا يجتمعو