»جردس«.. رؤية التراكيب الجديدة

محمد الغربي عمران


الاشتغال السردي .. ومحاولة التجريب الروائي في اليمن ما انفك يتواصل بين الكتاب الشباب .. فمنذ جيل الرواد الذين كانت أساليبهم صدى باهت للرواية في مصر والشام.. ثم الجيل الثاني من كتاب الرواية في اليمن الذين حاولوا إجادة التقليد والخروج عن التقليد.. واليوم يجد المتابع للرواية في اليمن هذا الزخم الكبير.. والمحاولات المتكررة للخروج بالرواية إلى خصوصية جديدة.. وهذا لن يتم إلا بالتجريب .
في هذه العجالة نستعرض أهم ملمح في عمل روائي صدر مؤخرا ضمن إصدارات منتدى مجاز الأدبي الثقافي (الإصدار الثامن ) في مدينة إب بعنوان “زهرة الجردس” للكاتب الشاب “عماد زيد”.
وسنتجاوز العتبات لهذا العمل من لوحة الغلاف المعبرة.. وعنوان الرواية الملفت وذلك الإهداء الذي خصصه الكاتب للمرأة بتقديس الأم وتبجيل الحبيبة . والتركيز على قدرة الكاتب في استخدام اللغة .. من خلال تراكيب جمله الجديدة.. واختيار مواقع لمفردات أقل ما نقول أنها مواقع مبتكرة وجديدة.. وكنت متوقعا أن اقرأ عملا صيغ بصورة تقليدية كما اعتدنا.. لكن هذا العمل يدهش القارئ من أول صفحة.
وهذا ما أردنا لفت انتباه القارئ الكريم كتجريب يحسب لعماد زيد. وسيقتصر حديثنا على جمل مختارة من الرواية ..منها “والشمس تسحب آخر أنفاسها من رئة النهار” والجملة الثانية “لقد كانت مهنة الحلاقة التي تناسلتها أسرته في ظروف غامضة بمثابة ورقة الرق التي جبلت الأسرة على حملها أينما ذهبت”وهكذا هي الجملة الثالثة”استنزفت التساؤلات بعد ابيضاض الطريق في عينيها المملوءتين بالسواد” وجملة أخرى “في الليلة الثالثة أحداق السماء تتساقط بردا على القرية”
وإذا ما تأملنا تراكيب الجملة الأولى فماذا سنجد ¿ صور صيغت بشكل مبتكر.. فرئة النهار هي من تستوعب أنفاس الشمس.. الكاتب وضع مفردة أنفاس بدل نور وجاء بالرئة كمفردة مناسبة للأنفاس.. بينما النور أو الأشعة التي اعتدنا أن نطلقها على نتاج الشمس لم ترق للكاتب.. وبذلك قدم لنا تجربة جديدة ليس في هذه الجملة بل بمئات الجمل التي أثث روايته بها ..والتي قد يظن القارئ في بداية صفحاتها أن الكاتب قد انشغل بذلك على حساب الحكاية .. وهي جوهر العمل ليغير رأيه بعد الولوج فصل بعد فصل.
وبالعودة إلى الجملة الثانية “مهنة الحلاقة التي تناسلتها أسرته..” هنا يضعنا الكاتب أمام مهنة تتناسلها أسرة.. صورة مشبعة بأكثر من معنى عميق.. وما يهمنا هنا من يناسل من .. هل الأسرة تتناسل بأفرادها أم تتناسل مهنة لها¿ إذا الكاتب يعي ما يقول .. ولا يكتب جمله بشكل عفوي.. بل بوعي ..وندرك أن الكاتب يراجع كل جملة بل كل مفردة حتى ترضى ذائقته الإبداعية بما يريد إيصاله للقارئ. وفي هذا استعرض قدرة فنية فائقة.. وفي الوقت نفسه صاغ من خلال جملته السابقة الذكر موقفا اجتماعيا هابطا .. ناقدا من خلال هذه الجملة وما يليها من جمل تلك العادات والمفاهيم التي يدعو إلى الثورة عليها.. وإذا استبطاننا معنى الجملة وما يليها “بمثابة ورقة الرق التي جبلت الأسرة على حملها أينما ذهبت” نجد أن تلك المهنة وغيرها وقد تحولت إلى صك إدانة.. وسوط جلاد.. وهذه قمة الإهانة لإنسانية الإنسان.. وهنا مفردتا “ورقة الرق” التي تفيد بالعبودية أو وصمة العار التي تلاحق تلك الأسرة.. بينما العمل في عالم المنطق هو شرف وكرامة ..وأي مهنة شريفة لا تزيد ممتهنها إلى مكانة وسط مجتمعه. ولا تتحول إلى معنى من معاني العبودية.
وفي الجملة الثالثة يأتي الكاتب بأربع مفردات” ابيضاض الطريق في عينيها” دافعا بالمعنى الذي يستهدف تقديمه للقارئ في صورة مدهشة.. والإبداع كما هو معروف ما هو إلا إدهاش.. إذ أن ابيضاض تفيد عطب العين ..هنا يمكننا أن نستلهم أكثر من صورة ..ولو تخيلنا تركيبا جديد» للجملة يفيد بصورة مباشرة ابيضاض العيون لأضحت جملة تقليدية ولا تحسب للكاتب. وإذا ما عدنا إلى الجملة بأكملها دون اجتزاء فإنها تفتح لنا نوافذ الإلهام.. وأترك للقارئ التأمل وتجريب تركيبها من جديد ليدرك كم الكاتب في روايته هذه قدم لنا عملا ملهما .
وجملتنا الأخيرة إذا اخترنا منها مفردتي “أحداق السماء” يقودنا إيحاؤها إلى العيون ..أو النظر.. وإذا ما قرأنا الجملة دون اجتزاء سنجد أنفسنا أمام صورة مختلفة ومعنى آخر”إذ أنها تتساقط بردا على القرية” تلك هي أحداق السماء.
نحن في هذا العمل الروائي أمام كاتب يدعونا إلى غد أكثر تجديدا للرواية في اليمن .. لنتجاوز السائد من تقليد والسير في دوائر مقفلة.
ونحن اليوم نحتفل بإصدار جديد ..إصدار متميز ..ومن كاتب في مقتبل العمر .. يقدم لنا مثل هذا التجريب..ما يدفعنا إلى أن ننتظر منه ما يحدث ثورة في بناء الرواية فنيا ..وبالذات أن لهذا الكاتب قدرة على اختيار مفردات وتركيبها بشكل جديد.. لصياغة كل جملة كعمل فني قائم بذاته منفصل ومتصل بالفقرة.. كما تتعدد ا

قد يعجبك ايضا