انحسار العالم
جمال حسن
من نظرة واحدة للعالم يبدو لنا في حالة انحسار. ليس العالم تحديدا بل الحضارة التي نعيش فيها الحداثة وما بعد الحداثة. تقوم على كسر الحواجز بين البلدانمفتونة بقيم ذات رنين جذاب. الحرياتالتعايش ونبذ العنصريةوإن كانت تلك شعارات تشكل بعدا إنسانيا يوتوبيا نتطلع إليهفإن الحداثة ساهمت في انفتاح العالم على بعضه. إلا أن تلك القيم التي اتسم بها عصرنا وحضارته تواجه محنة التراجع حيث صارت تنشأ عوامل تقوض كل تلك العوامل التي ساعدت على إنشاء هذه القيم. ومع انتشار أمراض فتاكة مثل الايبولا وهو فيروس ينتشر حتى عن طريق ملامسة الجلد وأوبئة لم يتمكن العلماء من اكتشاف أمصال خاصة بها أو أدوية. عوامل كثيرة إضافة للأوبئة كانتشار الإرهاب ونشوء التطرف والصراعات والفقر سيقوض من حرية التنقل. وقد يكون كذلك عاملا في ازدهار صناعة اقتصادية خطيرة بدأت تتشكل في مناطق النزاعات وهو اقتصاد الأمن أو الحروب.
فالعوامل التي ساهمت في ازدهارا عصرنا مبنية كذلك على قيم. لم يشهد العالم مسبقا هذا الحد من إلغاء الحواجز وحركة التنقل بين البلدان. سأستعير مقولة للمؤرخ الانجليزي اريك هوبزباوم من كتابه “عصر الرأسمالية” قال: لم يحدث أن صغر العالم كما هو اليوم وفي الوقت نفسه أن صار أكثر اتساعا على ماهو عليه اليوم. وهو يصف كيف صار عليه العالم في القرن التاسع عشر أي منذ عام 1830 حتى 1848م. وهو يصف كيف قصرت المسافات عما كان في السابق نتيجة اكتشاف الآلة البخارية وكذلك ظهور القطار وتوسع شبكة السكة الحديد. وهو ما سهل حركة السفر والهجرة والنقل وكذلك تبادل المعلومات.
يشهد العالم اليوم ازدهارا لحركة النقل والسفر خصوصا مع تطور صناعة الطيران والسفر. وأدى هذا التقارب غير المسبوق إلى سرعة نقل المعلومات وتدفقها. وصار من العوامل الجذابة للازدهار. هي ذلك الاتساع في كسر الحواجز وحركة دمج الاقتصاد الكوني ببعضه. قال دايسي عام1905م: “لقد غدا الاندماج تدريجيا روح الأنساق التجارية الحديثة”. وغدت التجارة الحرة بحسب هوبزباوم أمرا لا يمكن الاستغناء عنه لأنها تسمح للمنتجين فيما وراء البحار والمصنعين البريطانيين بتبادل المنتجات. وهو يقصد بداية القرن العشرين.
لكل عصر قيمه الخاصة به والأخلاق تتغير بتبدل العصور. ومع أن القيم نتاج أفكار وتنظيرات كبرى غير أنها تتشكل ضمن نسيج مصالح. فكما كانت العبودية أو الرق تسمح بها أخلاقيات العصور الماضية لأن الاقتصاد الإقطاعي يحتاج إلى العبيد لكن مع ظهور الآلة والاقتصاد الرأسمالي والصناعي صار الرق محرما وتجرمه بل أن بريطانيا الدولة العظمى آنذاك كانت تطارد تجار العبيد وتعاملهم كخارجين عن القانون. وأنتج الاقتصاد الصناعي ومصالحه قيم أخرى.
مع ذلك فالحضارات أيضا تنتج عوامل تقويضها منذ البداية وهذا لا يعني أننا سنشهد في عصرنا مرحلة غسق الرأسمالية. لكن تتشكل قيم جديدة. فكما كان الاندماج التجاري وولادة صناعة التنقل والحركة عاملا لتطور الاقتصاديات إلا أن مخاوف في عالم مليء بالأوبئة والفوضى والاضطراب اتساع مناطق النزاع سيخلق محاذير تنتجها الدول المسيطرة وهو تقويض حركة الهجرة بما تخلقه من مشاكل على الصعيد الداخلي. حيث بدأت أصوات يمينية في أوروبا وأمريكا تنادي بطرد المهاجرين. مرض ايبولا يظهر في دول إفريقيا لذا ستنتعش قيم الانغلاق خصوصا في المجتمع الرأسمالي الغربي بسبب تلك المحاذير. حيث ستتشكل سياسات تعزل المناخ الآمن لبلدان مستقرة عن عالم يتسم بالاضطراب يمكنه تصدير الجماعات المسلحة والإرهاب. وكذلك تصدر المهاجرين الذين يشكلون عبئا اقتصاديا على الدول.
كما أنها أيضا مخاوف مجتمعات من تفشي ظواهر يحملها معهم المهاجرون من بلدانهم. ففي السويد بدأ اليمين يلقى قبولا لدى المجتمعات بسبب اضطلاع بعض المهاجرين ببعض الأعمال غير المشروعة. وهي ذريعة يتخذها الشوفينيون كما في الولايات المتحدة ينساقون في خطاب حاد ضد المهاجرين القادمين من المكسيك حيث تشكل إحدى مناطق تصدير الجريمة خصوصا في مجال المخدرات حيث تشكل الفاقة والفقر واحدة من عوامل انتعاش ظواهر الجريمة والتطرف. لكن ما نراه اليوم عالم يغط في العنف بصورة خطيرة. عالم تتفشى فيه ظاهرة الدولة الفاشلة. مجتمعات تنخرط في العنف الطائفي وفي النزاعات العرقية والقبلية. عوامل تجعلنا نرى حضارة في الغسق.