محنة القبيلة

فتحي الشرماني


 - 
أشد ما يلفت الانتباه في خضم هذا الواقع الغريب والمليء بالعجائب أن تجد مجتمع القبيلة في اليمن على أحرج وضع وأصعب مرحلة ربما لم تمر بها القبيلة من قبل.
فعلى الرغم مما م

أشد ما يلفت الانتباه في خضم هذا الواقع الغريب والمليء بالعجائب أن تجد مجتمع القبيلة في اليمن على أحرج وضع وأصعب مرحلة ربما لم تمر بها القبيلة من قبل.
فعلى الرغم مما مرت به القبيلة من أحداث ومواقف مصيرية في الستينيات لم يذكر التاريخ الحديث أن القبيلة كانت على هذا النحو من القابلية للانشطار وتفلت الجماعات والأسر من عقال العرف القبلي الذي تعودنا أن نجده إما خطأ يسير فيه أبناء القبيلة كلهم, أو صوابا يقاتل من أجله أبناء القبيلة كلهم.
لاشك في أن متغيرات كثيرة أسهمت في تقليص سلطة الشيخ وسلطة العرف القبلي, خصوصا أننا في عصر غير مسبوق من الفردية والإحساس الذاتي, بدخول مواقع التواصل الاجتماعي التي تعطي كل شخص – أيا كان – موقعا خاصا له أصدقاؤه ومرتاده, أو قل: إنه ديوان كبير يطل الفرد من أعلاه بكل مواصفات الشيخ التي يريدها ويناقش ما يريد ويعرض ما يريد وينحاز لمن يريد.
لكن يبدو أن الأمر لم يقف عند هذا الحد, فالقبيلة كأنها تعيش اليوم مرحلة الـ (ما بين), أي ما بين العرف القبلي والإحساس الجمعي وما بين اختيارات الفرد, ذلك أن القبيلة اليوم لم تعد مسيجة أمام غيرها بمبدأ (القرار الواحد) و(المصير الواحد), الذي جعل القبيلة لعدة عقود تبدو بنية اجتماعية مغلقة في مقابل بنية المجتمع المدني, وإنما أسلمتها الأيام إلى وعي جديد, لا نستطيع القول: إنه وعي مدني, وإنما هو وعي ضبابي عنوانه الأنانية وسهولة الانقسام الذي يجعل القبيلة تأكل نفسها في تحالفات وصراعات لن تعود على مجتمع القبيلة بشيء سوى مزيد من التأخر والعزلة والعودة بقوة إلى زمن الحلم بالمستشفى والمدرسة والطريق والماء والكهرباء.
إن دم القبيلي لم يعد ذلك الدم الذي يهتز لسفكه مجتمع القبيلة من عمق الصحراء حتى شاطئ البحر.
كم نحتاج اليوم من تلك الديات المغلظة التي سنها العرف القبلي لكي نجبر ضرر بعضنا ونطفئ نار الفتنة.
مهما كان أثر المتغيرات على وعي القبائل فلا يمكن إنكار أن القبيلة اليوم تقاتل نفسها في أكثر من مكان وكأن الأرض ستنحسر عن جبال من ذهب لا بد أن يتسابق عليها الناس ويجن جنونهم.
ما يحدث اليوم لا يصلح في نظري أن نصفه بالجاهلية الجديدة, فالعربي الأول كان يقاتل من أجل فرض سيطرته على مساقط الماء وأماكن الخصب, وقبائل اليوم تتقاتل على الهيمنة لأجل الهيمنة, تتقاتل على نقاط التفتيش والرغبة في إذلال الآخر لمجرد الإذلال .. عجبي, حتى العصبية القبلية لم تعد بذلك الإباء والرفض والأنفة!!.
المهم, ما حدث في بلادنا هو أننا كنا نبحث عن تفكيك بنية القبيلة المنغلقة لتتصالح مع فكرة الدولة فحدث ما لم يكن في الحسبان .. وجدنا عرى القيم القبيلة الإيجابية تتفكك بفعل عمى وتخبط يضرب جذوره في شخصية الشاب القبلي الذي يبدو اليوم مفتونا بحمل سلاح أثقل من السلاح الذي حمله أبوه, مع أنه يعرف أن أباه لم يحصد غير المأساة.
هل هذا بسبب أن الجمهورية لم تحسن تعليم هذا الجيل, وجاءت الحداثة ليستفيد من وسائلها في تعزيز هويته القبلية وإضافة عصبيات أخرى يبحث فيها عن ذاته .. قد يكون ذلك, لكن كم يحتاج شباب القبيلة اليوم من الوقت حتى يفهموا ما فهمه آباؤهم في الأخير, وهو أن السلاح لا يصنع غير الخراب¿!

قد يعجبك ايضا