الإبداع : فن الحقيقة .. أكذوبة الخيال

المقالح عبدالكريم

المقالح عبدالكريم –
– 1 –
«الفن – الفنان – الطفل» ما من شك أن هناك علاقة متينة خفية تجمع أجزاء هذا الثالوث الذي يكون في مجموعه جسدا واحدا لا ينفصم فالفن بجميع أشكاله والفنان على اختلاف النوع الذي يشتغل عليه .. والطفل من الناحية السيكولوجية أعمدة ثلاثة تعتبر أساسا ليعلو عليها المعبد الضخم. فالفن عموما – حسب مفهوم بيكاسو – كذبة تمكننا من رؤية الحقيقة والتي توازي مقولة لأجدادنا القدامى ما يذكرنا برائد المسرح الطليعي الفرنسي جان كوكتو الذي اعتبر الشاعر «كذاب يقول الحقيقة».
– 2 –
وهكذا ندرك أن القاسم المشترك بين الفن والفنان هو «الكذب» والذي يقودنا إلى الضلع الثالث في مثلثنا ذاك وهو الطفل : «حلو وكداب ليه صدقتك» فالمعروف أن الطفل على براءته اللامحدودة كشخصية بضة طرية يمتاز بسمة رئيسية هي الكذب تلك الريشة السحرية التي يغمسها في خياله الخصب فيرسم أروع اللوحات التي تمكنه من تجميل واقعه/عالم الكبار بل تتيح له أن يخلق لذاته كوكبا مستقلا حر المدار يسكنه هو وحده.
إذن الطفل فنان بالفطرة وهو ما يجب أن يكون عليه الفنان الكبير سواء شاعرا أو ناثرا أو غير ذلك ففي النظرية البيكاسوية نجد صاحبها بعمق وتركيز يحدد لنا مكمن العلة وعلاجها فيقول : «كل طفل فنان والمشكلة هي كيف يبقى الإنسان فنانا عندما يكبر».
– 3 –
ثمة مثال لنستمع إلى فرنسيس جامس : «الشاعر طفل وإذا لم يكن طفلا ساذجا بريئا يتكلم من قلبه بطل أن يكون شاعرا عظيما».
من يدري أن هذه العبارة كانت بمثابة كلمة السر/المفتاح الذهبي إلى مغارة الكنز الأسطوري حيث التقطها وبذكاء مرهف وعي الشاعر الخالد نزار قباني منذ بداياته لما أوردها الدكتور منير العجلاني في مقدمته للباكورة النزارية «قالت لي السمرا» عام 1944م. ولعل أدل دليل على صحة النظرية أن قباني ظل طوال مسيرته الفنية صوتا شعريا مباشرا كطلقة المسدس .. طفلا مشحونا بالرعونة والتهور مكتظا بالبراءة والشيطنة وقد أفسح المجال للطفل ساكن أعماقه ليقول عنه كل ما قرأناه له .. حتى أنه اعترف بذلك في أحد حواراته بقوله : «أرى العالم بعين طفل ودهشة طفل» كما نجده يضمن ذات المبدأ بل ويضيف إليه في مقطع جاء في سيرته الذاتية القصيرة التي صدر بها ديوانه : هل تسمعين صهيل أحزاني فيقول : «إنني حر وحريتي تدفعني إلى ارتكاب حماقات كثيرة ولكنني لا أعتذر ولا أندم لأن الشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة .. وبيان انتخابي لا يقرأه أحد».
– 4 –
وعودا على بدء .. مقولة أجدادنا العرب : «أصدق الشعر .. أكذبه» وهذا التضاد الصارخ بين الصدق والكذب محير بدرجة نسبية فكيف ذلك¿! وللإجابة على هذا السؤال لا بد من التفريق بين صدقين : حرفي وفني فنحاسب الشاعر – أو المبدع عموما – على الثاني دون الأول فإذا زعم الشاعر فلتان في إحدى قصائده أن اسم حبيبته سحر ونحن المقربين منه نعلم أن اسمها الحقيقي بخيتة فهل معنى ذلك أن نبلغ عنه في أقرب قسم شرطة ونحرر محضرا مستعجلا بدعوى الكذب على ذقون القراء¿!
وإذا أخبرنا القاص زعيطان على لسان بطلة قصته أنها عرفت شرارة الحب من أول نظرة فوق الهودج الياباني/تويوتا من كوكب الدائري إلى مجرة الحصبة حين جلس أمامها «شاب حليوة أفندي» بادلها النظرات والتآهاوت -على أنغام مسجل الباص- وفي الفرزة عرف كل واحد بنفسه في ركن منزو بينما الحقيقة غير ذلك وتفاصيلها وقعت في الكلية يوم أعلن أحد زملائها أنه عثر على دفتر محاضرات – لا هوية له – وعلى صاحبه أن يصف «إماراته» ليستعيده فقصدته وكان ما كان مما ليس تذكره هل نقول في هذه الحالة أن حضرة قاصنا هذا هو نصاب زور في مجرى الأحداث بارتكابه جريمة كذب نكراء مع سبق الإصرار والترصد.
– 5 –
إنه موضوع غير ذات أهمية لأن ما يهم هنا هو وجود تجربة حقيقية أما التفاصيل فلا تهم على الإطلاق حيث يتدخل هنا ويلعب دوره الفعال ما يسمى في الأدب «عنصر الاختيار» وهو الأداة التي تتيح للفنان التقاط شاردة من هنا أو واردة من هناك من أجل إكمال وإغناء عمله الفني من كل زواياه حسب الناقد الخالد الدكتور غالي شكري في كتابه «أزمة الجنس في القصة العربية» حيث أن الشاعر أو القاص التشكيلي أو… إلخ فنان في المقام الأول أي ليس مصورا فوتوغرافيا في محل استوديو تصوير لذا فالمقولة العربية أصدق الشعر – وفي رواية أعذب الشعر – أكذبه ليست بأي حال من الأحوال ضوءا يسمح للفنان ويدعوه إلى أن يتحول إلى «ك . ك» – أي كذاب كبير – بدرجة 1000 درجة مئوية حيث أن تلك المقولة لا تتعدى أن تكون نبراسا قويا يضيء للفنان معالم دربه حين يعي ويدرك أن «الصورة الفنية» أساسا لا يمكنها أن تكون مجرد نسخة «فوتوكوبي» طبق الأصل للواقع إذ أن روح الفنان ليست مرآة تعكس ما أمامها ولكنها بلورة سحرية تتلقى

قد يعجبك ايضا