الذهنية الروائية (2)
صدام الشيباني
انصرف الروائيون الى البحث عن أشكال الراوي والمكان , لنسج العمل الروائي , واهتموا بانفتاح النص وانغلاقه , واتجه بعضهم الى الإثارة الاجتماعية للحصول على المقروئية , وبعضهم الى المتاجرة بآلام الناس سرا , على أن تلك الكتابات هي النماذج الروائية التي ينبغي أن تكون . والمعضلة الحقيقية مازالت قائمة بين الكتابة بأسرارها والذهنية الروائية , والكتابة المقصودة هنا هي الكشف عن المستور والبحث عما غاب عن المجتمع بفعل «السحر» المغيب للحقائق من قبل كل السلطات , وليست الكتابة التدوين , التي يسرد بها كثير من الروائيين , فالكتابة السردية «عقلنة» , وهي متجهة الى نقد هذه العقلنة , وأنواعها , وعلى الذهنية الروائية ان تتنبه لذلك , لا ان تقع رهينة التفكير السطحي , لأن السطحية موت للكتابة . والعقلنة الروائية نقد لبنية العقل العربي , وطريقة التفكير القرائي , وتأمل مراجعة منظومة الأفكار الخارجة عن المشاريع الاجتماعية والسياسية والثقافية , أو تطبيق سياسات ورؤى ليس لها موطئ قدم في الإقليم العربي , وقد انشغل العقل العلمي عن ذلك , بقي الخيار امام الأدب لكي يصحح عمل العقل في مساره , وأعني الجهود الفكرية بعيدا عن التعصب , وقد قدمت بعض الروايات نقدا بصورة متطرفة الى منظومات فكرية , ولم تتبن خيارات موضوعية صرفة . أمام الذهنية الروائية أن تقوم بإدارة الخلافات الاجتماعية والفكرية , وتنظيم المجتمع حسب حاجة الناس الى الحياة المستقرة , وتنظيم أشكال السلطات , بما يسمح بإقامة حوارات ديموقراطية داخل المجتمع , تضمن قناعات الناس بالمساواة في توزيع القوة والثروة , والمشاركة السياسية دون إقصاء . من خلال إقامة علاقات ناجحة ومثمرة بين الأشخاص وذات رسالة غائية . على الذهنية الروائية الإفادة من الخطاب العلمي , بتحويل أفكار النظريات الحديثة التي تمس حياة المواطن الى صيغ فنية , تؤثر في القراء , وتغير من حياتهم بطرق ناعمة , لا يشعرون بذلك , وأقصد هنا الخطاب العلمي بكل أنواعه , و الإفادة منه في الصيغ الشكلية عبر تجديد الخطاب , فالعلوم متداخلة وتصب كلها في مصلحة الإنسان , وهو محورها , وللتقريب طبق بعض الأدباء رؤى في علم النفس وعلم الاجتماع وظلت جهودا فردية لم تطور من قبل خطاب النقد . كذلك اعتاد المجتمع العربي على الفوضى الوظيفية في الحياة , وعلى الذهنية الروائية الالتفات الى هذه الفوضى , من خلال إعادة أدوار التخصص الى الشخصيات الروائية , ووضع التخصص المناسب للشخصية المناسبة , والخروج من المواقع غير المؤهلة التي تدمر الأوطان وكذلك عليه إحياء الضمير الوظيفي , حتى يكون المرء محاسبا أمام نفسه , وخطاب الرواية قادر على ذلك إحياء ذلك . وهذه قضية مهمة أمام السرد . كذلك على الروائي ان يتذكر أن خطاب الحداثة دخل مرحلة الكذب والزيف والتضليل على الناس , والمراوغة والاحتيال , والتعامل مع النبى التقليدية , وتسريب أنساق استبدادية , وهو ما جعل الناس يتركون الاستعانة بالخطاب الحداثي , على الروائي أن يعيد تأهيل الحداثة التي دمرها خطاب الفكر , ودعم توجهاتها بما يناسب حاجة الأوطان , وحاجة المرء الى ذلك , لأن الرواية عمل حداثي وعليه أن يقيم نفسه قبل أن ينتقده الآخرون . ومن المهم أن يكسر الروائي أنساق التقليد , لا أن يقع فريسة له , كما وقع أغلب الروائيين في ذلك , وان يحارب في أعماله صناعة الوهم , التي يتاجرون بها ليلا ونهارا , ولعلها تجارة مربحة لأصحاب النفوذ , ويدرك الروائي ذلك , لأن المجتمع غارق في (الوهم) الى الدرجة التي تحول فيها الى خطاب ثقافي رسمي يدير شؤون المجتمع , وهذه كارثة يجب السيطرة عليها . ولا يفوتني هنا الوهم الديني الذي صير كل شيء الى وهم مقدس , وأمر الناس بالخضوع له , وهو من صناعة الفكر البشري , وما أجمل من الرواية في محاربة ذلك , وكشفه . وليس بغائب عن الذهنية الروائية معاناة عذابات السجون , لكنها تتغافل عن ذلك لأسباب يعرفها الروائيون , والحديث عن عذابات الإنسان في السجون الخارجية (القمع والاضطهاد) والسجون الداخلية (التوتر والخوف والقلق ) حديث يثير شجون العامة من الناس وكذلك النخبة , ويثير سخط السياسي , والعسكري , والبلدان العربية سجون ممتلئة بالمعذبين والمضطهدين , الذين أخذوا في الشهرة , والذين لم يشتهروا , فالى متى ستظل هذه العذابات بعيدة عن أعين القراء , وبعيدة عن الرأي العام العربي ¿ هذا سؤال يختص بالإجابة عنه الروائيون . لم تهتم الذهنية الروائية بنظام التعليم العام ومخرجاته , في حين أن النظام التعليمي هو الذي يصنع مستقبل البلدان , وعند العرب هناك الكثير من الزيف والمغالطة , في كتابة التاريخ وتعليمه , أو المعلومة بشكل خاص , في العلوم , ومازالت تدرس أوليات العلوم , والأفكار النظرية المؤسسة من القرن التاسع عشر , بالإضافة الى غياب الكادر وغياب المنهج الحديث , وغياب الميزانيات , وهذا جعل مخرجات هذا التعليم مهزوزة , وهشة , تغيب عنها الحقائق , ولا