حديث الوحدة على ضفاف نهر »هان«
هشام علي

حين تم الإعلان عن توحيد اليمن في 1990م كانت الأنظار تتحرك في اتجاهين شرقا في اتجاه الكوريتين وغربا في اتجاه ألمانيا الشرقية والغربية وكانت الأخيرتان تعدان العدة لتوحيد الألمانيتين منذ انهيار أو تحطيم جدار برلين الشهير.
كنت أتذكر هذه اللحظة من مسار التاريخ وأنا أجلس على مائدة عشاء في مطعم على ضفاف نهر «هان» الذي يشق سيؤل عاصمة جمهورية كوريا
كانت المائدة تضم عددا من المثقفين والإداريين في الشؤون الثقافية جاءوا من عدد من البلدان الآسيوية الأفريقية وأميركا اللاتينية وفي جانب من ذلك الحشد سألني المضيف الكوري عن مستقبل الوحدة اليمنية وعن اتجاهات الحوار وآفاق المستقبل مفتتحا بذلك حوارا طويلا تحددت أركانه بالمصادفة بين اليمن والسودان وكوريا ولكل من هذه الدول تجربة مع الوحدة كانت كوريا قد انقسمت إلى دولتين في أعقاب الحرب العالمية الثانية ونشأ في الشمال نظام اشتراكي بعد سيطرة الاتحاد السوفييتي على الأراضي التي انسحبت منها القوات اليابانية بعد هزيمتها في الحرب ووقع الجنوب في قبضة القوات الأميركية وبعد ترتيب أوضاع العالم بين القطبين العالميين نشأت دولتان في شبة الجزيرة الكورية في 1950م دولة اشتراكية في الشمال كان قائدها الزعيم الشهير كيم ايل سونج الذي حكم البلاد.
لأكثر من ثلاثة عقود ثم أعقبه ابنه ولا يزال حفيدة يحكم إلى اليوم وفي كوريا الجنوبية أخذ النظام الأسلوب الغربي في نظام الحكم مهد الطريق لنظام رأسمالي صناعي خرج من ضرائب الحرب العالمية الثانية ومن دمار الحرب الكورية التي استمرت ثلاثة أعوام.« 1950 -1953م».
وتغمر الإنسان الدهشة والذهول حين يرى مدى التقدم الاقتصادي الصناعي والتطور العمراني والحضاري في هذه البلاد التي كانت دولة متخلفة محطمة في الخمسينيات من القرن العشرين وأصبحت اليوم واحدة من الدول العشرين المتقدمة في الاقتصاد العالمي.. وربما نحتاج للتوقف قليلا أمام هذه المعجزة الكورية التي لا نعرف عنها إلا القليل من المظاهر الخارجية.. مثل سيارات هيونداي وموبايل سامسونج وهما بدون شك رمزان من رموز الصناعة الكورية ولكن وراء هذين الاسمين التجاريين مسيرة كبيرة من العمل والمعرفة والابداع .. لا نستطيع سرد وقائعها واستعراض تحدياتها في مقال كهذا يقتصر على الانطباعات السريعة والأسئلة التي تستثيرها هذه التجربة الكورية الرائدة.
وقبل أن أعود لسرد ما جرى من نقاش حول الوحدة استأنف تسجيل انطباعاتي عن سيئول المدينة الكبرى الناهضة من بين انقاض الحرب العالمية الثانية… ولعل أول ما يسترعي الانتباه هو الزمن زمن التقدم والنهوض الذي لا يتجاوز ستين عاما.
نلاحظ أن هذا الزمن لا يفرق سوى بضع سنوات عن زمن الثورة اليمنية والجمهورية.. ولا أتحدث هنا عن الزمن العربي المتباطئ الذي سبق كوريا الجنوبية بعقود تمتد إلى أيام نابليون بونا برت وحملته الشهيرة على مصر.
كيف تحولت كوريا الجنوبية في نحو نصف قرن من الزمان من دولة متأخرة إلى دولة متقدمة وصناعية كيف تحقق هذا العمران والتقدم الصناعي بهذه السرعة التي تفوق في سرعة عجلتها تجربة الثورة الصناعية في أوروبا نفسها¿ ولا يقتصر التقدم على الحضارة المادية والصناعية بل أنه شمل المجتمع والتقاليد والعادات.. فالمرأة في كوريا الجنوبية كانت حبيسة المنزل لا تخرج منه ولا تعمل.. فهي تقوم بأعمال المنزل وتربية الأطفال مثل كثير من نساء العالم الثالث في القرن الماضي ولكن حال المرأة الكورية تغير بصورة كاملة وبسرعة تصرفية فخرجت المرأة من أعمال التدبير المنزلي لتصبح مشاركة وفاعلة في التقدم وأخذت مواقع متقدمة في التعليم والصناعة السياسية وهي تحتل اليوم منصب رئيس الوزراء.
من المهم الإشارة هنا إلى مسألة تاريخية في التجربة الكورية.. فالكوريون في مسار تقدمهم لم ينشغلوا بأسئلة التقدم وإشكاليات النهضة على نحو ما جرى في تجربة النهضة العربية التي وضعت أسئلة التقدم منذ رفاعة الطهطاوي في القرن 18 ولا تزال تعيد تكرارها إلى اليوم دون أن تتحقق نهضة ولا يتم تقدم.. لقد مارس الكوريون أفعال البناء والنهضة دون أن ينشغلوا بأسئلتها وإشكالياتها المختلفة.. هكذا قامت ركائز العمران الكوري واستطاعت كوريا أن تنتقل من العالم المتخلف إلى العالم الصناعي خلال خمسين عاما واستطاعت كذلك أن تنافس الدول الصناعية على المراكز الأولى في مجموعة العشرين من الدول المتقدمة حيث أصبحت تحتل الموقع الثالث عشر أو الرابع عشر في هذه المجموعة.
أعود الآن لمواصلة حديث الوحدة الذي بدأت به المقال كان ال
