اليمن والذاكرة

جمال حسن


 - قد يبدو اليمن بلدا مثخنا بالنسيان لأنه لا يكاد يأبه لصورة ماضيه عكس البلدان الأخرى التي تعرف كيف تحيي مناسبات وطنية وفولكلورية في تاريخها. كثيرا
جمال حسن –

قد يبدو اليمن بلدا مثخنا بالنسيان لأنه لا يكاد يأبه لصورة ماضيه عكس البلدان الأخرى التي تعرف كيف تحيي مناسبات وطنية وفولكلورية في تاريخها. كثيرا ما يطمر التاريخ الحاضر ويعيش على حسابه. أوطان عديدة تعاني من سمنة مفرطة في ماضيها تعيش مثقلة به. غير أن اليمني يعيش في النسيان ليس لأنه بلا ذاكرة بل على العكس لأنه يتذكر بصورة مفرطة. وفي الوقت نفسه عرضة لتلويث ذكرياته. فالأحداث تأخذ أبعادا انفعالية والأساطير تكاد تتوارى خلف غيمة داكنة من التصديق المفرط. اليمن بلد موجود في الذاكرة أكثر منه في الجغرافيا. كيف يمكن تصور ذلك¿ لست بصدد كتابة ملغزة كما قد يبدو للوهلة الأولى.
دعونا نأخذ إطلالة مقتضبة من تاريخنا لنأخذ شخصية كعلي بن الفضل وهو يمرغ بأشياء لم تنسب لأحد سواه. أشياء لا يمكن تصديقها ثم يأتي رأي مغاير يتعطش لخلق أبطال لإيجاد هذا التاريخ الممحي والمعرض للطمس. لكن ما يحدث أننا نضع مكان الصورة الزائفة عن الرجل الممتلئة بالتشنيع صورة أخرى لم تنج من المغالاة بالتبجيل وتصويره كبطل آخر. يضيع الوجه الحقيقي ويحل مكانه وجهان متصارعان أو أكثر من وجه سماته متآكلة. اليمن ذاكرة أكثر منه جغرافيا كما أخبرتكم. غير أن تاريخه عرضة للكشط بصورة أبدية. ولأن اليمني لا يستطيع الاستغناء عن هذا الماضي بل لأنه مسجون فيه يقوم بإعادة بناء ذاكرته وهكذا تتدخل عمليات جراحية لخلق هذا التاريخ. أشكال مختلفة تحاول نسج الوطن على طريقتها. حتى ثورة سبتمبر حاول البعض كتابتها كما يحلو له صورها بطولته الأولى والأخيرة. هناك طرف مثلا يحاول تجسيد الإمام يحيى كبطل لم يتنازل عن الأرض شاطبا الكثير من الواقع. الإمام لم يكتف فقط بالتنازل عن الأرض بل قام بتسليم آل الإدريسي حكام عسير والذين قاتلوا معه لآل سعود.
الكارثة ان كثيرين يتحدثون كمدار وحيد للحقيقة كما يحلو لمعتقداتهم لتنصيب هذا الإمام مكانه المقدس. اليمن بالنسبة لها التاريخ ايدلوجيا. وإذا عدنا لصورة بطل نحاول تصويره كعلي بن الفضل سنرى البعد المتخلي عن المأساة في ملهاتنا التاريخية. دس السم عبر طبيب قادم من العراق له. دائما هناك تدخل من الخارج. لماذا إذن لا نرى هذا البعد الميثولوجي للمأساة لدينا. هناك دائما نظرتنا للمأساة كحالة ناشئة عن تصور ديني. أو بصورة أنسب هناك اعتماد على الحس البدوي في رؤية الأشياء. لا يوجد ذلك الإحساس الخلاق بتحويل المآسي تصور أسطوري. دائما نفتقد الحس الشعري علاقتنا بالأشياء تكاد تكون موسومة بالمباشرة شديدة الابتذال. مقتل الحمدي كذلك غلفناه بحب يكاد يكون مسلوب الأمل هناك دائما استغلال للأحداث لمصلحة اليأس أو أسرنا بذلك الماضي. منذ مقتل الحمدي واليمني يشاور نفسه عن فرصة ذهبت.
إذن لدينا الذاكرة انفعال أكثر منها تاريخ. مع ذلك نفتقد إحساسا تراجيديا خلاقا صنعت منه الشعوب أساطيرها. ماذا نعرف عن أساطير حضارتنا القديمة. كنت أتحدث حول ذلك وقال زميل بأنه لا توجد أساطير كبيرة لأن الديانات القديمة بسيطة واليمني برجماتي وواقعي أكثر منه روحاني. بعض من ذلك صحيح يكفي هذا الحس المنعدم لخلق التراجيديا وتصويرها. لكن هناك بالتأكيد أساطير مهما كانت بسيطة. في الأسطورة البابلية يحكى عن شيطانة اسمها ليلي تسكن تحت شجر الصفصاف ويمكنها التمثل بصورة إنسان إلا أن قدمها يظل كقدم الحمار أو الجدي. من تلك الأسطورة تبقت لنا حكاية “الصياد” التي مازال يؤمن بها كثير من أبناء الريف في اليمن. هناك علاقة بين الحضارات السامية القديمة. في نقش اشوري تحدث عن أسرى عرب “يمنيين” أسرهم سنحاريب وغنوا لأسيادهم الأشوريين فأطربوهم. كان الغناء مزدهرا في اليمن. هذا التاريخ الضائع في صعدة يمنع الحوثيين الغناء كما نكل الأئمة بالمغنيين. ذاكرتنا مكشوطة لذا نفترض يمكن اجتثاث اليمني من شخصيته ومسخه في فاترينات ظلامية باعتبارها التاريخ الحقيقي. السلفية القادمة من الشمال تهيمن على الروح الأصيلة.
اليمني مقتنع دون أن يدرك أنه لا يساوي بدون ذلك التاريخ. مع هذا أمام مراحل الكشط المستمرة يكون هناك أبدا استعداد لتلقف أي دس. لم يتعرض بلد كما نحن لهذا التمزيق والتشتيت لتاريخه آثار تتعرض للتلف والبيع. وفي هذا الوقت من الارتهان للخارجي ترى النخب في اليمن أن الفائدة من هذا التاريخ في إمكانية بيعه. فباعتقادها أنها مهما باعت يمكن تزييف ماض أو تاريخ آخر لهذا اليمني.

قد يعجبك ايضا