عودة جلجامش المنتظر

نبيلة الشيخ

 - «أيام وأيام 
كل الأزهار تعرفني 
كل الطرقات 
المزروعة بالحجر
نبيلة الشيخ –
«أيام وأيام
كل الأزهار تعرفني
كل الطرقات
المزروعة بالحجر والورد والعيون
كل اتجاه لي فيه ذكرى
تحت كل شجرة لي بصمة حضنة أو قبلة لحبيبة »
سمير البياتي …القادم من عبير النخيل وفرات الماء , القادم من جذوة التاريخ المشتعلة , حينا نشوة , وحينا آهة , صاحب الريشة البديعة , التي حمل كل ألوان قوس قزح ليرسم حقيقة العالم التي رأها بعينيه , ليهب الليلك للوحاته تارة , وذوب اللهب والذهب تارة أخرى , رسم فصفقت له الأشجار , وانحنت إعجابا , كان يفهم تصفيقها له فيرسم في كل مرة أجمل مما مضى .
حين ضاقت عين الرسم بتباريحه , لجأ إلى رحابة الحرف , ليرسم أكثر التفاصيل التي تسربت من لوحاته , حمل قلما , مداده دم قلبه , وكيف لا يكتب بدمه وهو بعيد عن بغداد , كيف لا يكتب بماء روحه والذكريات تشعله , والأنباء .
في قصيدته حديقة الزوراء
هاهو لا يغادر الطرقات المزروعة بالحجر والورد والعيون , فله في كل ركن حكاية , وعينان .
أيها الجسر الخشبي المتهالك
كم مرة رسمتك
لقد وثقت شبابك وأنت الآن هرم
وأنت أيها البيت الخشبي الأحمر
جالس لوحدك مع بحيرتك الصغيرة
هل تذكر كم جلست أمامك أتأملك
ألواني أخذتها منك
أي نافورة من الوجع تصبغ قلب هذا الشاعر , وهو يستحضر حبيته البعيدة , يخاطب الجسر المتهالك , الذي رسمه ذا يوم شابا لكنه هرم الآن , أي مفردة هذه تجرك إلى هرم الروح وفجيعته
تجرك إلى هرم الأحلام والأمنيات , ولا تنسى أن تجرك إلى هرم التجاعيد أيضا , جالس لوحدك , ولوحدك هذه قصة , قصة وحدته , وحيدا وبعيدا عن وطنه , وحيدا وبعيدا عن حلمه , ووحيدا وبعيدا عن الفرح , لا يحس بحزن الكوخ إلا مثله , ولا بوحدته إلا مثله , لوحة مصبوغة بحمرة هذا الكوخ , موجوعة بسحنته .
عندما أرسم كانت الأشجار
تنظر إلي بتمعن وبلهفة
وعندما تستحسن اللوحة تهز أوراقها بقوة
وكأنها تصفق لي .
يؤكد الشاعر وحدته , بنفس القدر الذي يؤكد تماهيه مع الأشجار هذا الخطاب السحري بينهما هنا الاعجاب المتبادل والتصفيق الحار ورهافة الحس العالية تلتقط ذبذبات الورق بميزان الروح.
الأشجار تموت وهي واقفة
لكنها مثمرة بقبل العشاق
وآهات الأحبة
كلنا كتبنا على أجسادها العارية
قلوبا وعهودا وحروفا
الأشجار تعرف عشاقها
يتماهى مع أشجار الزوراء , قبلة العاشقين , يصبح شجرة , تهرم وتموت , لكنه مثقل مغدق بالمحبة , كأشجار الزوراء المغرمة دوما , ها هو ذا يموت واقفا , يموت راضيا يموت متدثرا بقبل لاتفنى.
وهنا بكائية أخرى في هذا المقطع من قصيدة اسمها بدر شاكر السياب
لم تنقطع موسيقى اللطم على الصدور والخدود
ما زال اللون الأسود في الشوارع والقلوب
بدر
شط العرب يبكي من شحة الماء
نخل العراق انحنى خجلا من الوقوف
لأنه لا يملك سعفا يغطي هامته
انكسر كبرياء دجلة والفرات
اصبحت مآذن العراق أطلالا
تبكي عندها العصافير والطيور
النهر أصبح عاريا
التاريخ رحل
يبدأ هذا المقطع بموسيقى الحزن , ولون السواد , سواد يملأ كل شئ , سواد يصل حتى إلى القلب , تأملوا النخيل حين ينحني خجلا , صار مشوها عاريا بلا سعف , صارت هامته مكشوفة لاتستر من صدى الصفعات ولا من نظرات المارقين .
آآآآآآآآه حين ينكسر كبرياء الماء , حين ينكسر كبرياء الكبرياء ,
النخل والفرات يمسكان بيد بعضهما , ينشجان معا , يتعريان معا
ويعرى التاريخ معهما .
يختم بكاءه بهذا المقطع
يكرر عبارة نم يا بدر نم ويقول :
قد نموت ونحن نعلق النياشين والخطب
على صدر نخلة
تحفظ العهد
وترجع التاريخ من المهد
وتشرق شمس العراق
بعد أن يتم الطوفان
وتسطع مسلة حمورابي
من جوف الأرض حتى السماء
تعلم الزمان كيف
يحترم قيم الإنسان
نم قرير العين
نم
فنحن نيام
لا يزال بداخله عراقي آخر, يتحرك حلمه المدفون بين رماد الخطايا , لا يزال يستنجد بنخلة لا تخون , ينبجس منها التاريخ والشمس , بعد أن تجفف أشعتها مياة الطوفان الآسنة ,أما الآن فيرتد إليه البصر خاسئا وهو حسير , فيقول لبدر نم قرير العين فنحن نيام , لا فرق بيننا فلا تغبطنا الآن على حياة تخلو من الحياة .
في قصيدته سيدوري
أيتها الفتاة
يا عاملة الحانة
قدمي لنا النبيذ
قد نسكر وننتشي
روادك قد هربوا ولم نبق إ

قد يعجبك ايضا