حان الوقت في اليمن لتغيير فلسفة ومنهج العمل الاقتصادي

د. يحيى بن يحيى المتوكل –

yyalmutawakel@yahoo.com

كنت قد تساءلت في مقالة سابقة نشرت في صحيفة “الثورة” عدد 5 أغسطس 2012م بعنوان “أين الاقتصاد في بحر السياسة الثائر¿” حول أوان أن تكون القرارات المتعلقة بمواردنا ومعيشتنا اقتصاديةٍ وليست سياسية أو نفعية. وأكدت في ذات المقالة وفي غيرها أننا في أمس الحاجة لتضمين الحوار الوطني القادم محوراٍ للقضايا الاقتصادية والتي لا تقل شأناٍ عن أخواتها السياسية وكذلك النص على الأسس والمبادئ العامة الموجهة والحاكمة لاقتصادنا في الدستور الجديد الذي يجب أن يتجاوز فلسفة اقتصاد السوق الحر الحالية إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يوازن ويحافظ على المبادرات الفردية لاقتصاد السوق من ناحية ويؤكد على المسئوليات والتكافل الاجتماعي للفاعلين في الاقتصاد من ناحية أخرى ضماناٍ للعدالة الاجتماعية. وفي هذه المقالة أكرر الدعوة لكافة الفاعليات المجتمعية وخاصة الأحزاب السياسية إلى أن تستفيد من الفرصة التاريخية المتاحة حالياٍ لها فردياٍ وللوطن مجتمعاٍ وتعمل على مراجعة وتطوير توجهاتها السياسية والاقتصادية بما يتواءم مع المرحلة والأحداث التي تستدعي تطويراٍ حقيقياٍ وليس لفظياٍ يوفر القدرة على الاستمرار في الساحة السياسية بنفسُ جديدُ وعمقُ أصيلُ يتجاوز النزاعات القائمة والتي كشفت عن نفسها في عصبياتُ ومناطقيةُ مقيتةُ وفكرُ ضيقُ لا يرقى أي منها للتعبير عن مشروع وطني عصري بعكس ما تدعيه تلك الأحزاب.
وسأتناول في سلسلة مقالات – قد تكون جافة بطبيعة موضوعها – مبررات الحاجة لفلسفة ورؤية اقتصادية جديدة تلبي متطلبات المرحلة القادمة وخاصة دعوات التغيير وتحقيق الكرامة الإنسانية وكذلك مناقشة مزايا فلسفة أو منهج اقتصاد السوق الاجتماعي وتطبيقاته الناجحة وصولاٍ إلى إمكانية تبنيه في اليمن ومتطلبات العمل به بعيداٍ عن مجرد التقليد أو المحاكاة. وأبدأ هذه المقالة الأولى ببيان فشل السياسات الاقتصادية طوال أكثر من 15 سنة في وضع أسس لاقتصاد متنوع وديناميكي نتيجة العجز في التغلب على الصعوبات والتحديات التي تواجه مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية عموماٍ. فقد أشارت الدراسات والتقارير العديدة حول أداء الاقتصاد اليمني خلال الفترة الممتدة منذ تبني الدولة فلسفة اقتصاد السوق الحر (الليبرالي) في عام 1995م بدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية وبقية الجهات المانحة والذي تْرجم في برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري أشارت إلى تواضع ذلك الأداء بصورة عامة وعدم تحقيق المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي استهدفها البرنامج والخطط الاقتصادية والاجتماعية. لقد تم تبني ذلك التحول نحو اقتصاد السوق الحر في ظل ظروف وعوامل غير مستقرة أدت إلى الابتعاد عن العمل المنهجي والمخطط وأضفت على عملية التحول قدراٍ من الانتقائية في القررات والسياسات والاجراءات. لذلك ورغم مرور هذه الفترة الطويلة منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في اليمن إلا أن الاقتصاد الوطني ما زال يتصف بتدني النمو وضعف الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والذي يتضح من مؤشرات الميزانية العامة والميزان التجاري وقصور السياسات الاقتصادية في التعامل مع التضخم والتراجع المستمر في سعر الصرف بالإضافة إلى تحيز السياسات الاقتصادية ضد النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية مما أدى إلى تضاعف مستويات الفقر وتنامي أعداد العاطلين عن العمل بشكل متسارع ومنهم نسبة كبيرة من المتعلمين.
كذلك مع تنامي التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة والمجتمع فى اليمن وعجز الدولة بمفردها عن تزويد الفقراء بالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات العامة الأساسية تثور تساؤلات حول دور الدولة ووظيفتها بل ومشروعيتها خاصة مع استمرار تزايد السكان ونمو الطلب على كافة الخدمات العامة. وبالتالي يصبح النهوض بالتعليم ونوعيته وتوفير الرعاية الصحية وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي قضايا ذات أهمية بالغة كسياسة عامة للدولة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكذلك توفير متطلبات النمو الاقتصادي. لقد اشتدت الحاجة والضغوط في السنوات الأخيرة لمراجعة السياسات الحكومية والبحث عن بدائل تحرك عجلة الاقتصاد وتخفف من المعاناة إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تملك قرارها واستمرت تجاري الأحداث والتطورات أمام تفاقمُ واضحُ للتحديات والصعوبات التي تواجه البلاد.
لقد أجمعت الفعاليات اليمنية التي تناولت في الفترة الأخيرة فلسفة وسياسات اقتصاد السوق الحر على أن دور الدولة في اليمن يجب أن يتعزز في النشاط الاقتصادي والاجتماعي عموماٍ وتحديداٍ نحو تحقيق التوازن والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة ولتستعيد الدولة دورها في مجالات تخلت عنها في السابق. كما رأت أن على الدولة أن تكون معنية وبشكل مباشر بإقامة البنى التحتية والإشراف على توفير السلع والخدمات العامة وقيادة جهود العلم والتقانة وخاصة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة حالياٍ داخل البلاد وخارجها.
ويتطلب هذا التغيير والدور الجديد للدولة البحث عن إطار نظري تستند إليه يتجاوز النظريات والمناهج المطبقة حالياٍ ومن ثم وضع الإطار العام للنشاط الاقتصادي والاجتماعي وإعادة صياغة مجمل السياسات وحدود تدخلات الدولة وسن القوانين والنظم وتحديد علاقاتها مع المواطنين. ويجب أن تدفع الدولة بالنشاط الاقتصادي من خلال إعطاء حيز واسع للقطاع الخاص وتعزيز إمكانيات المؤسسات والأفراد وكذلك المسؤولية الذاتية للمواطنين في النشاط الاقتصادي دون أن تغيب كليةٍ عنه مع تفويض بعض الرقابة لمنظمات المجتمع المدني. إذاٍ يكمن جوهر التغيير والتحول في البحث عن التنظيم المناسب للنشاط الاقتصادي والادارة الفعالة ومن ثم تطبيق هذا التنظيم وتحديد الأهداف والمستفيد.
وفي هذا الاتجاه لا يجب أن نسير بمعزل عن تجارب هامة وناجحة في أكثر من دولة كما لا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة بل علينا النظر حولنا وإلى النماذج الناجحة في تجارب الدول المختلفة والاستفادة من الدروس التي اعتمدت النهج الواقعي ومنها اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يمكن أن يصبح خياراٍ أمثل للسياسات الاقتصادية والاجتماعية من خلال التوفيق بين اقتصاد السوق الحر والتدخل الحكومي المنظم المستند على شراكة مع المجتمع وبما يتضمنه هذا النموذج من أسس وعناصر تلبي دعوات التغيير المنشود خاصة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي.
ودون أدنى شك فإن نجاح أية سياسات جديدة يتطلب رؤية تنموية ناضجة يتم تصميمها بما يلائم ظروف البلاد وواقعها الاجتماعي والثقافي وبيئة النشاط الاقتصادي إضافة إلى تحفيز الدور الاقتصادي والاجتماعي للقطاع الخاص والتشاركي للمجتمع المدني. ويجب أن يكون دور الدولة مرناٍ ومتغيراٍ وفقاٍ لكل حالة ومرحلة يمر بها الاقتصاد وفي ضوء التطورات الاقتصادية الداخلية والخارجية التي تتطلب مراجعة مستمرة للسياسات ودون الإخلال بالأسس والمرتكزات التي تتبناها الدولة بما في ذلك الشراكة الثلاثية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني وخاصة نقابات العمال لتتضافر الجهود لرسم ملامح التحول الاقتصادي وتحقيق تطور حقيقي ينعكس في نمو اقتصادي مضطرد وتحسين مستمر لمعيشة المواطن وتوفير فرص العمل.
إن فشل برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري المدعوم باقتصاد السوق الحر لا يعني بالضرورة سقوط ذلك المنهج بكْليته وإنما يحتمل تفسير ذلك الفشل بمجموعة عوامل أو بعض منها على سبيل المثال عدم الجدية في تطبيق برنامج الإصلاح واستخدامه كورقة مساومة مع المجتمع الدولي أو عدم التطبيق الكامل لبرنامج الإصلاح وانتقاء مكوناته السهلة والتهرب من الخوض في الإجراءات اللازمة لتحقيق هيكلة الاقتصاد الوطني خوفاٍ من ردة الفعل الشعبية. كما تؤدي هشاشة الاقتصاد الوطني وتركز هياكل أسواقه وخاصة السلع الأساسية بما يعزز الاحتكارات وكذلك ضعف الدور الرقابي للدولة وتدني وعي المستهلك وغيرها إلى عدم إمكانية تفعيل آلية السوق وسيادة المستهلك في اقتصاد السوق الحر كما هو سائد في الدول المتقدمة وبالتالي فإن التطبيقات والسياسات التي تنجح في الدول الغربية أو الصاعدة قد لا تتوفر لها ظروف وأسباب النجاح في دولنا في الوقت الراهن وهي مسألة بحاجة إلى قدر من الإمعان والنظر.

قد يعجبك ايضا