محمد القصة القصيرة جدا.. فن ينتمي إلى جنس السرد.. يرى المنظرون فصلها عن القصة القصيرة.. لكنهم لم يستقروا على مصطلح أو تسمية أو تجنيس يناسبها.. وقد أستطاع أحد النقاد المغاربة أن يحصر أكثر من خمسين توصيفاٍ أطلقه النقاد عليها: منها القصة القصيرة والأقصودة.. والأقصوصة والومضة …إلخ ذلك.
وذلك التعدد والتناسخ في محاولة إيجاد مصطلح واحد لها كما هي الرواية والقصة القصيرة .ناتج عن انتشار كتابتها وتضاعف أعداد كتابها من يوم إلى آخر.
وهذا الكم يدفعنا إلى التساؤل : هل كل ما يكتب تحت مسميات القصة القصيرة جدا ينتمي إلى هذا الفن¿ وهل تكرار الأساليب وتقليدها بين الكتاب يخدم تطورها.
هناك أسماء لمعت في هذا المجال بعد أن أصدروا مجاميع في هذا الفن.. تراهم توقفوا عن كتاباتها.. وكانوا من أعمدة القصة القصيرة جدا. لنسمع مبرراتهم ” قدمت ما لدي” وآخر “هي تجربة وكفى”وثلث “وجدت أنني لا أستطيع تقديم أفضل مما كتبت وأني أكرر نفسي” وهكذا نجد أن الكثيرين ممن يعوا خصائص هذا الفن وجدوا أنفسهم أمام فن يصعب التجديد فيه.. وإن استمروا فلن يقدموا الأفضل وسيظلون يستجرون نفس الأساليب المطروقة منهم ومن غيرهم . هذا جانب وجانب آخر نجد أن الكثيرين من الأقلام الجديدة يكتبون نصوصا يصفونها بالقصة القصيرة جدا بينما هي نصوص متداخلة تبتعد وتقترب من خصائص هذا الفن..وهي ليست منه. وهذا الخلط نتيجة لعدم الاطلاع والتشبع والوعي بما سينتجه الكاتب.. إضافة إلى اتساع أفق النشر وتعدد منابره الكترونيا وورقيا.ما ساعد على تزايد الكتابات المختلفة.
واليوم بين يدينا مجموعة لأقاصيص غاية في الإتقان الفني.. إذ أن الروائي اللامع منير عتيبة له ما يقارب الخمسة عشر إصداراٍ تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل والنقد والسينما والمقابلات الأدبية . ولذلك نجده مستغلا لتجربته الكتابية وخبرته في مجال السرد ليقدم لنا هذه المرة مجموعة أقاصيص ممتعة فنيا..ومشوقة موضوعيا. وهو صاحب توجه أن التنافس في الإبداع يرتكز على كيف نكتب ونقدم الفكرة ..ولي مجرد حكي دون فن وتجديد في البنى والأشكال .
في هذه المجموعة لفتت انتباهي الناحية الموضوعية.. ولذلك لن أتناول أي جانب من الجوانب الفنية وهي متعددة.. فالكاتب مشغول بالنحت الفني كما ذكرت.. ودوما ما يلفت انتباه القارئ لذلك ..
والموضوع في هذه المجموعة الذي شدني هو الموت الذي تناولته أكثر نصوص المجموعة -ما يزيد عن أربعين نصاٍ من ثمانين- إضافة إلى موضوع الظلم الذي أخذ حيزاٍ أقل بعد الموت – ما يقارب العشرين نصاٍ. ثم عدد قليل من النصوص ذات الموضوع العاطفي وهي لا تتجاوز السبعة نصوص. إلا أن جميع تلك النصوص غلب عليها الجانب السوداوي.. حتى النصوص العاطفية نجدها بنهايات حزينة وبائسة.
في البدء بحثت عن رابط بين حضور الموت في نصوص عتيبة وما يعيشه العالم في عصرنا .. لأجدها تتكامل والمشهد العالمي الكارثي.. فمن منا لا يتابع نشرات الأخبار.. وكأنها تعنى بأخبار الكوارث والحروب والمجاعات والتهجير .. لكننا لا نسمع خبر اختراع جديد لدواء أو حفل فني موسيقي فريد إلا نادرا .. وكأن البشرية منصرفة لصنع الفجائع والكوارث.
إذاٍ مجموعة عتيبة مرآة تنعكس عليها ما يدور من أحداث وأخبار الإبادات والمواجهات وتدمير الآثار وسبي النساء. وغرق مئات المهاجرين في عرض البحر وصور المجاعات في قارات العالم .. ولا أرى ذلك القبح يخص مجتمعاٍ أو ديناٍ بعينه وإن ظهر بشكل ملفت وكأنه نبتة إسلامية ..ونعي جميعنا أن ساسة العالم شركاء في صناعة ذلك القبح.
روح الحكاية مجموعة قصصية تقدم لنا إنسان كوكبنا كما هو .. أو كما هي أخلاقه .. تقدمنا أساليب العنف النفسي والبدني والظلم دون رتوش أو تزويق.. وهذه النصوص ليست موجهة إلى مجتمع بعينه .. فالإنسان الذي يعيش في آسيا له صلة بما يدور في شمال إفريقية .. والذي يعيش حول البحيرات العظمى له صلة بما يدور في حوض الأمازون .. وهكذا نجد أن جميع سكان كوكبنا الأزرق يشتركون في صناعة تلك الكوارث ومسئولين جمعا عن تدني الأخلاق وإن أظهرت وسائل الإعلام عكس ذلك أو حاولت تبرئة مجتمعات بعينها عما يدور.. بزيادة قتامة أفعال بعض سكان الأرض وتقديم مجتمعات أخرى أكثر إنسانية ومثالية زورا وزيفاٍ.. فما يدور في العراق أو سيناء أو اليمن وليبيا ونيجيريا أو أفغانستان ويانمار يشترك في صناعته الإنسان في أوربا والهند وروسيا والإمريكتين .. وكل المجتمعات على ظهر كوكبنا البائس.
نصوص روح الحكاية تعبر عن أزمة إنسانية.. وكما ذكرنا أن بين ثمانين نصوص هناك أكثر من أربعين نصاٍ تدور حكايتها حول القتل.. وهناك أكثر من عشرين نصاٍ تتماس حكاياتها مع الموت…. حتى النصوص القليلة التي اقتربت من الحب والعاطفة نجدها بنهايات حزينة وبائسة. إذاٍ نصوص المجموعة تشبه عالمنا البائس فأي مستقبل لهذا الحال.
وبداية بنصوص القتل .. أو الموت: يقابلنا أول نص في المجموعة وهو بعنوان اختيار: .. وكان عليِ أن أختار الموت بالقرب منها, أو الموت بعدا عنها.. فاخترت الحياة.
ونص آخر بعنوان من أجل الحياة: كان يسن سيفه بيقين راسخ,يملأ خزانة مسدسه بيقين قوي, يضغط زر قنبلته الذرية بيقين ل يتزحزح. فتنفست بعض الشك لتستمر الحياة.
وهكذا في نصوص أخرى مثل : منتهى الأدب.. زيارة.. قرار آخر خاطئ.. أحلام للآخرين.. وصول .. فرص ضائعة.. قبر السبعة أشهر.. تحاول أن تكون مسلية.. قتل.. استئصال. حتى بقية النصوص التي تعالج قضية القتل.. نجد الكاتب لا يقدم لنا مجتمعاٍ مصراٍ بل يدفعنا لاستحضار ما يدور في أزمنة مضت وفي ما يدور حولنا من قبح التطرف والمؤامرات الدولية.
نص آخر بعنوان هابيل لزماننا: المتعة التي شعرت بها وأنا أقتل أخي تجعلني أتمنى أن يكون لي مائة أخ أقتلهم..حبا في الرب.
هذا النص وغيره يعالج قضايا الرغبة والشهوة للقتل .. وكما ذكرت هو لا يعني بنصوصه مجتمعاٍ بعينه بل أبعد من ذلك حين يعني الكاتب الإنسان بعيدا عن لونه ودينه وعرقه.. الكاتب يخاطب الأخلاق والقيم الإنسانية .. ويدين الإنسان بعيدا عن الإقليمية والقطرية والجهوية. فالنص السابق “هابيل لزماننا” لم يتكئ على موروث مجتمع بعينه بل ذهب لإستدعاء أسطورة إنسانية يرددها الجميع حول أول جريمة قتل إنسانية. ليوظفها لتقدم حاضرنا.
النص اللاحق .. أخذ الكاتب من قصة يوسف.. وكذلك من قصة كبش النبي إبراهيمم وببراعة متناهية .. يختزل لنا ويستحضر أكثر من أسطورة يعرفها الجميع ليقدم نصا فارقا في سطرين حول تعطش الإنسان للقتل والخديعة. والنص بعنوان ذبيح: عندما رأيت أبي في المنام يذبحني, قتلت أخي المفضل لديه, واستوليت على الميراث وحدي!
إذاٍ هذه المجموعة جاءت لتدين الإنسان في رغباته القبيحة حين تتغلب نزعاته الدموية.. وحبه للتسلط والاستحواذ. ليقدمنا عتيبة دون مساحيق وأقنعة .. وهكذا هي معظم نصوص المجموع مغرقة في الحزن والألم.
المحور الثاني الظلم: وهي نصوص الفئة الثانية التي غلبت في موضوعاتها على الظلم وتسلط واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.. ونجتزء بعض العناوين التالية: لم يدرك شهرزاد الصباح.. انبطاح خاطئ.. القرابين..واء واء..لعب.. توكل..ونصوص أخرى.
ونورد بعض النصوص مثل نص بعنوان الجنون: كان السلطان أول من شرب من نهر الجنون.. عاد إلى قصره.. أصدر مرسوما سلطانيا بتشديد الرقابة على النهر.. وإعدام كل مواطن يتجرأ ويشرب منه ليكون للسلطان وحده الحق فيه.
ونص آخر بعنوان توكيل: جلست في مواجهته قائلا: أريد أن أرى التوكيل الذي منحك الله لتحكمني!
وقف بابتسامة الواثق, أخرج مصحفا من جيبه ووضعه على الطاولة.. أخرج مسدساٍ من جيبه الثاني ووضعه على الطاولة.. يبحث في جيبه الثالث… أنظر إلى الطاولة ولا أجرؤ على إعادة السؤال.
ذلك النص وغيره ذات الصلة بالقتل والظلم والتجبر .. هي أيضا لا تعني مجتمعاٍ بعينه.. وإن طْبعت المجتمعات الأكثر تخلفا وأبتليت بمن يأتي ليفرض نفسه وكيلا عن الغيبيات .. ولا يكون ذلك إلا بتواطؤ المجتمعات الإنسانية .. بل وفي كثيرها دعم لا متناهي للظلمة من أنظمة وجماعات إرهابية متطرفة .. ترعى أجهزة مخابرات دول تدعي التحضر لتلك الفئات الضالة والدموية .. ولذلك تأتي نصوص المجموعة لتدين تلك الأفكار الضالة والأكثر عنفا. كما تدين المجتمع الإنساني المتواطئ والداعم والراعي والممول.
وتبقى لنا القليل من النصوص التي تبعد قليلا عن محوري القتل والظلم.. وتقترب من العاطفة .. مثل النصوص التالية: أخت سندرلا.. ونصوص أخرى. ونقدم أمثلة مثل نص بعنوان.. خوف: نظرتها تخلقني إنسانا جديدا.. أغلق عيني على نظرتها.. أخشى أن أفتحهما فلا أجدها..بعد طول تردد..أفتحهما فلا أجدها!
شك: لولا تطابق لون وشكل عينيهما لشك في انتساب الولد إليه. أما هي فلم تجد وجه الشبه بينها وبين القرد التي وضعته. لكنها لم تعرف فيمن أبيه.
حصاد: شبحها الذي خايلني طويلا عبر أغصان فكرة قديمة برائحة ظلام متخثر, وبلون عطر عتيق.. هو ما اصطدته اليوم بأنف آيلة للبكاء.
طيف: المرأة التي ينام طيفها بيني وبين زوجتي الآن ترى طيف رجل غيري ينام بينها وبين زوجها.
وهكذا نجد أن الكاتب قدم لنا نصوصا تنوعت بين القتل والظلم .. وتلك العاطفة المنكسرة.. نصوص تتشح بلون الحزن.. وضبابية العلاقة حتى بين المحبين.
وكأن الكاتب يصرخ بأعلى صوته في الإنسانية :كفى دماء كفاكم قبحاٍ وتطرفاٍ.. دعونا نعيش بعيدا عن تآمراتكم الدنيئة على بعضكم.