حققت الرواية العربية خلال العقود الأخيرة انجازات فنية مبهرة وحضوراٍ كبيراٍ ومكانة بارزة جعلتها في صدارة المشهد الإبداعي العربي وهو ما جعل الناقد الدكتور/ جابر عصفور يطلق على هذا العصر بـ ” عصر الرواية” وذلك من خلال كتابه النقدي الموسوم بهذا العنوان والذي صدر قبل عدة سنوات ومع ما شهدته الرواية العربية من تطورات وتجارب فنية مذهلة أقيمت العديد من المؤتمرات والملتقيات العربية والدولية عن الرواية العربية وقضاياها المختلفة..
ومن آخر هذه الملتقيات ملتقى القاهرة الدولي للرواية العربية والذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة الدورة السادسة والذي أقيم تحت عنوان “تحولات وجماليات الشكل الروائي” وذلك بمشاركة أكثر من200 من الروائيين والنقاد المصريين والعرب وقدمت خلال أيام فعالياته العديد من أوراق العمل والدراسات والمداخلات النقدية والشهادات الإبداعية المختلفة من قبل المشاركين في الملتقى وقد تم نشرها في كتاب صدر عن الملتقى وفيما يلى ننشر ملخصات لهذه الأوراق والمداخلات:
الرواية العربية وجماليات الأفول
• فيصل دراج:
بعد أن اتخذت الرواية العربية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي من نقد السلطة محوراٍ لها انفتحت في بداية الألفية الثالثة على منظور جديد يمكن أن يدعى: جماليات الأفول التي ترسم مجتمعاٍ أضاع ماضيه ولم يظفر بحاضره ويتكئ هذا المنظور على عناصر ” موضوعاتية” متعددة: الركون إلى الماضي والاحتفاء بذاكرة ممزقة تداعي الشخصيات وانقساماتها وسقوطها في حاضر لا أفق له تحول الزمن إلى قوة مسيطرة تقود الإنسان من عثار إلى آخر استعادة ملامح من ” رواية الأجيال” كعنصر فني يشهد على تبدلات البشر والمكان الانتقال من الاغتراب الذي يميز الشخصية الروائية بعامة إلى التفكك الروحي والمعنوي تعيين الحاضر كزمن لا مستقبل له كما لو كان الماضي هو الحاضر والمستقبل معاٍ الرحيل على مستوى المكان..
تجلت جماليات التداعي في رواية عربية متنوعة كمحتقب مصر ولبنان والجزائر وسوريا والعراق لا يتكشف الوضع الجديد للرواية العربية في موضوعاتها التي تعلن الرحيل من زمن إلى آخر بل تتجلى في التقنية الفنية المتعددة الأبعاد التي توحي بأن فترة معينة من حياة المجتمعات العربية قد انتهت وأن شكلاٍ معيناٍ من الكتابة الروائية يشهد على هذا الانتقال ويجعله موضوعاٍ للتأمل والتساؤل.
الرواية سيرة العربي في الدراما التلفزيونية والخطاب السينمائي.. الغياب والتغيب
• فريد رمضان:
إن ما حدث منذ مطلع عام2011م يؤكد على أن الطريق الطويل والشاق للتحولات الديمقراطية في الوطن العربي تنقصه أشياء كثيرة ولعل الصورة في معناها العام وخطابها الجوهري أساس عميق لفهم المجتمع وأسئلته الصعبة التي لم تكن سوى الرواية الخطاب الأكثر وعياٍ وفهما بل والأكثر إخلاصاٍ للواقع وقرباٍ منه وقدرة على استجوابه وتسليته أيضاٍ وهو الأمر الذي لم نر التفاتاٍ هاماٍ له لا على المستوى التجاري والخاص ولا على مستوى القطاع العام والرسمي.
ومع الانفجار الإعلامي ورأس المال الخاص برزت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي صورة جديدة تم استغلالها بشكل كبير لتسويق خطابات عديدة تعزز السلبية الخضوع التبعية لعل الخطاب الديني المتطرف هو إحدى نتائجها.
إن الفجوة الكبرى بيننا وبين الإعلام العالمي تؤكد أن صناع الدراما في الوطن العربي ولأسباب عديدة تخلت عن الرواية كمصدر واع لتسويق الصورة العميقة والقادرة على مكاشفة المجتمع والواقع وفهم الإنسان ضمن محيطه وبيئته وواقعه المتغير.
شهادة عن تجربتي مع الرواية
• فؤاد قنديل:
تنوعت تجاربي مع الرواية بشكل قد يبدو للمتعجل دليلاٍ على الحيرة والسير ليلاٍ في صحراء جمالية دون ملامح لكن الفكرة المهيمنة بصورة متواترة كانت تبلورها رغبتي في الإجابة عن السؤال الذي يسبق كل رواية بأي هندسة فنية يمكن تشكيل عالم هذه الرواية بما يتسق مع موضوعها وأحداثها وطبيعة شخصياتها وزمانها ومكانها وما تنوي توصيله من رؤية¿
الشابة التي تعتزم حضور حفل مميز عليها ألا تختار أي فستان لأن الحفلات تختلف ومزاج الشابة ذاتها يتباين والزمان والمكان يتمايز ويوحي بشروطه وتوقعاته والمهندس الذي يعتزم بناء عمارة ليست لديه دائماٍ تصميمات جاهزة يختطف من بينها واحداٍ ويبدأ بعده الحفر كذلك كتابة الرواية لا يجب قسرها عنوة على ارتداء أي ثوب يستر العورة والسلام وهيا أيها القلم انطلق واركب خيول اللغة والتقط التعبيرات المجنحة ودفع بالأحداث صوب الصراع فلا علاقة بين ما ذكرنا وبين الفن. الفن رؤية وخيال وأطر وحالة ومناخ وعالم يقتضي بناءه وهي مشروع جمالي وإنساني وتاريخي يتطلب فكراٍ ومشاعر وأحلاماٍ وأيضاٍ دقة ومحددات لا تفتقد الحرية والمرونة الخلاقة.
أيقظتني من نومي فجأة وكنت أكتب القصة القصيرة فقط فكرة كتابة رواية عن أحداث 1967م وما جرى بالمناسبة في رأيي ليس حرباٍ ولا معركة بين طرفين ولكنه كان اجتياحاٍ خاطفاٍ تم خلال ساعات سبقته قرارات حمقاء. لم أكن أدرك تماماٍ ما ذكرت عن الشكل الروائي وإن كنت فكرت فقط في محاولة الاختلاف عما هو قائم وسائد فلما بدأت الكتابة عن الشخصية الرئيسية في رواية ” أشجان” وركزت عليها وحدها مع الإشارات الضرورية لعلاقاتها بالشخصيات المتعاملة معها أو المؤثرة في مسارها بدأت أدرك أن المناسب منحها وحدها فصلا يعقبه للآخرين فصول. وهكذا كتبت الرواية التي عرفت بعد سنوات أنها الرواية متعددة الأصوات والتي سبقني إليها فتحي غانم بروايته ” الرجل الذي فقد ظله ” وفي الوقت ذاته تقريباٍ ظهرت ” ميرامار” لنجيب محفوظ لكني لم أكن قد طالعتها. وانتهيت من الرواية نهاية عام 1969م وتوالت منذ السبعينيات صدور رواياتي وكان لكل منها قصة مختلفة مع الشكل.
” مسارب الحكايا” في نسجية رضوى عاشور السردية
• كرمة سامي:
على نولها في مساء البلاد
تحاول رضوى نسيجا.
وفي بالها أمة طال فيها الحداد
( رضوى طال الشتات مريد البرغوثي 327)
تنتمي رضوى عاشور إلى تراث الذين ينسجون لنا بالخيوط الملونة والفضية والذهبية حكايات تاريخنا وقائع ما حدث في الشدة المستنصرية بل وفي جميع الشدائد عندما تضرب مصر بالنوازل والسنين العجاف ويهلك الحرث وتتصحر الأرض ويظهر الغلاء ويشتد الجوع.
تتكون نسجية رضوى عاشور من “دستة” من النسجيات الإبداعية نستطيع أن نتخيل ظروف صناعتها ونعرف من كلفها لتنسجها¿ لتهديها إلى من ¿! ما بين الرحلة: أيام طالبة مصرية في امريكا(1983) وأثقل من رضوى (2013) تعكف رضوى على نسجيه بحجم وطن للمهمشين يحملون أمتعتهم القليلة ما تبقى لهم من حياة بأكملها على أكتافهم أرتال من اللاجئين من المحيط إلى المحيط ومن النهر إلى البحر تحاول هي بسردها أن تحولهم من الشتات إلى الثبات وأن تعيدهم إلى أوطانهم.
عند رضوى الفكر والفن لا يتنافران: “وألمحت أنني أكتب كأنني منحارة( أعي العنصر الايديولوجي فيما أكتب وأعتقد أنه دائماٍ هناك في أية كتابة) ولكن لو سألتموني الآن: هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك¿ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوى جزء من دوافعي أكتب لأنني أحب الكتابة وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني تدهشني تشغلني تستوعبني تربكني وتخيفني وأنا مولعة بها”.( رضوى عاشور: صيادو الذكرة220) لكنها لا تخون التزامها للفن ووعيها بضرورة اتساق المبنى والمعنى” غضب الفنان وحده لا يأتي بذلك البيان الساحر! لا بد أن تتوفر لديه قدرة فذة على صنع تكوين دال ومقتصد ومتناسق إلى حد الصرامة الهندسية!.”( الرحلة 144).
في النسجية تقارير تشكيلية في الفن والثقافة والسياسة وتجسيد فني لكل ما يعبر عن كينونة رضوى. ولأن لكل “يونانه” ولكل غرناطته” ولأن “على كل يوناني أن يواصل أسطورة اليونان الأبدية فمن المفترض أن على كل مصري (أو عربي) أن يواصل أسطورة مصر ( العروبة) الأبدية” ( صيادو الذكرة 223). من هنا ترصد نسجية رضوى عاشور الجدارية المرسمة تفاصيل من واقع الحياة في مصر والعالم العربي مختلطة بزمان ومكان الحدث في شكل حوارات بصرية بين وحدات نسجية/ سردية ومنمنمات كولاجية وسردينمائية وخدع سردية وتوثيق ومونتاج يعتمد على إيقاع منضبط واختيار حاسم للزواية واللقطة والمشهد بأكمله وتصبح بذلك النسجية حكاية تاريخ وجغرافيا.. لحمة وسدى.
الرواية والفنون
التشكيل الروائي بين الإيقاع والصورة
• لنا عبدالرحمن:
جمالية الصورة في العلاقة بين الرواية والفن التشكيلي
إذا كانت الموسيقى هي فن التجريد فإن طبيعة السرد الروائي لبعض الأعمال الأدبية تتضمن حضوراٍ واضحاٍ لفنون أخرى نجد فيها انعكاسا للمشهدية البصرية المتفاعلة مع الإيقاع السردي مما يشكل تماهيا فنيا يكسر الحواجز بين المكتوب والمرئي والمتخيل.
بيد أنه قبل الخوض في طبيعة العلاقة المتداخلة بين الفنون سواء في المقاربات البصرية أو الروائية أو الموسيقية ثمة منحى تاريخي ينبغي التوقف أمامه خصوصاٍ أننا إزاء نوع من الفنون الروائية الذي يمكن اعتباره منتميا لعصر الحداثة في مقابل الموسيقى والرسم الضاربين بجذورهما في عمق تاريخي أبعد.
وإذا كانت العبارة الشائعة اليوم بأن الرواية هي فن هذا العصر التي أخذت من تقنيات كل الفنون الأخرى واستخدمتها في بنائها السردي فالسؤال المطروح: كيف يحدث هذا وهي فن حديث – بشكله الحالي – لم يكن له وجود من قبل¿ وكيف كان المشهد الدرامي قبل زمن الرواية¿.
لوحة المشهد الدرامي وحضور الشعر والموسيقى والفن التشكيلي.
أ- رافاييل ولوحة عذراء سيستين
ب- الرواية ونهاية النظام الاقطاعي وظهور النظام البرجوازي.
ت- تحولات الفن التشكيلي مع ازدهار الفن الروائي مع التشكيليين الكبار (بيكاسو – دالي).
ث- تحولات الموسيقى.
ج- قراءة في لوحة (عودة غير متوقعة) لايليا رابين ولوحة (امرأة تعد الطعام) لديو فيلاسكيز واكتشاف الحكايا المخبوءة في اللوحتين.
ح- تحليل لوحة (الغرينيكا) لبيكاسو ورواية (لمن تقرع الأجراس) لارنست هيمنغواي.
– السرد والإيقاع.
أ- رواية بروست (البحث عن الزمن الضائع) نموذجاٍ لذلك وكذلك روايات توماس مان.
ب- تحليل رواية أحدب نوتردام 1831م لهوغو يقابلها سيمفوني فانتازي 1830م.
– الرواية والموسيقى.
أ- قراءة في نماذج روائية يحضر فيها تأثير الموسيقى.
أطراف السرد والفوضى الخلاقة
• لطيف زيتوني:
(لن نتخلص من كومة الأسئلة مثلما لن اتخلص منهما بدوري غير أن سؤالاٍ يبقى يلح علينا ولن نعثر على جواب له .. سنبقى نراوح حائرين والحيرة متاهة أنت تعرف أن الحيرة إحدى متاهات بورخيس الحاث والداعي لنا على التذكر أنت تراها وتبتسم في سرك تبتسم سراٍ ولا تعرف أن كان وجهك مثل سرك يبتسم أيضاٍ يا أيها العابس دائما حاول أنت تعرف لن أكون بعيداٍ عنك يدي في يدك ولسوف نعبر معاٍ إلى الضفة الأخرى بأقل الخسائر).
إلياس فركوح: أرض إليمبوس صـ323-233
لا تختلف هذه الصفحة التي يختم بها إلياس فركوح روايته عما قبلها من صفحات (أرض إليمبوس) لجهة وجود صوت يتوجه بضمير المخاطب إلى آخر مستمع. هذان الطرفان لا خلاف اليوم على تسميتهما: الراوي والمروي له. ولا فرق في ذلك أن كان المروي له هو عين الراوي (كأن يتصدع الراوي إلى نصفين) أو مستمعاٍ آخر. فبعد إرهاصات كثيرة امتدت لسنوات تمكن جيرار جينيت من تنظيم هذه الأفكار في سلسلة تمتد من المؤلف إلى الراوي إلى النص إلى المروي له إلى القارئ.
ولكن هذه السلسلة لم تحسم أمر السرد وأطرافه. فهناك مثل واين بوث من ادخل مصطلح المؤلف الضمني ليعبر به عن الصورة التي يشكلها القارئ للمؤلف من خلال النص وهناك مثل ولفغانغ ايزر من أدخل مصطلح القارئ الضمني ليعبر عن الصورة التي يرسمها الكاتب لقارئ نصه خلال التأليف. وهناك مثل آن بنفيلد من انكر وجود الراوي في السرد مستثنياٍ السرد المروي بضمير المتكلم. وهناك جوزيه ساراماغو حامل جائزة نوبل في الأدب الذي أعلن أنه أمضى حياته (وهو ينادي بان الراوي لا وجود له). وهناك مثل بعض منظري تحليل الخطاب من حاول خلق مجموعات داخل السلسلة السردية على غرار مجموعات السلسلة النحوية وانطلاقاٍ من مقارنة لسانية. هكذا تضاربت الابحاث بين اتجاه تواصلي وآخر غير تواصلي وتعددت المقاربات بين براغماتية وتواصلية وشعرية وتحليلية نفسية وتباينت النتائج والترسيمات والمصطلحات كما اختلفت الأدوار والوظائف المنوطة بكل طرف من أطراف السرد.
هذه المداخلة تسعى إلى إجراء مراجعة للنتائج الفعلية وإلى اقتراح ترسمية جديدة تخفف (أو تزيد) من التشتت القائم وتعيد ضبط المصطلحات ضمن الحدود التي تنطبق عليها.