سد مأرب.. المدرجات الزراعية على الجبال.. مدينة صنعاء التاريخية.. دار الحجر.. شبام حضرموت …إلخ شواهد حية باقية على علاقة الإنسان اليمني ببيئته.. فمنذ بدايات التاريخ وهذا الإنسان يعمل على ترويض بيئته ـ لا التكيف معها ـ وعلى نحو لا يضر بها أبداٍ.. وذلك بأسلوب خاص يزيد من جمال المكان وحميميته.. وهو ما منح حياة اليمنيين طابع الاستقرار الذي أدى إلى نشوء المدن التي بدأت من تجمعات سكانية صغيرة كالأحياء وانتقلت إلى مرحلة القرية وأخيراٍ المدينة.. والتي تعددت وتنوعت حسب اختلاف الطبيعة الجغرافية والمناخية.
لقد برعت الحضارة اليمنية القديمة في فن العمارة والبناء.. ولعل أدل مثال على ما وصل إليه إنسان تلك الحضارة هو سد مأرب الشهير.. والذي عدهْ كثير من المؤرخين أعظم ابتكار قام به عرب جنوب الجزيرة العربية ـ أهل اليمن ـ الذين استطاعوا أن يحولوا الصحراء إلى جنة كبيرة على الأرض.. يقول سبحانه وتعالى في الآية 15 من سورة سبأ: «لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور».
لقد كانت فكرة هذا البناء الهندسي متقدمة على الكثير من المشروعات المماثلة والمعروفة في حضارات أخرى كالفرعونية والكلدانية وبلاد الرافدين.. إذ إنه يتجاوز فكرة توفير خزان مائي ضخم يحجز مياه الأمطار.. إلى ابتكار جديد يروي مساحات شاسعة من الصحراء القاحلة وذلك عن طريق شبكة من قنوات الري الممتدة في تفرعات كبيرة.
وإذا كان قصر غمدان الأسطوري قد انمحى على أرض الواقع ولم يتبقِ منه سوى روايات الإخباريين والتاريخيين العرب وغيرهم.. فإن ثمة شواهد تاريخية لا تزال باقية وصامدة في وجه العصور والقرون وهي العمارة اليمنية التي تجاوزت مرحلة الصناعة إلى الفن.. وذلك عبر مستويات عدة مثل تنوع الأنماط الهندسية واختلاف الأشكال والأحجام الأمر الذي جعل الكثير من المستشرقين والمؤرخين والرحالة يقفون أمام روائعها ـ العمارة اليمنية ـ بذهول لا يحد واندهاش لا يوصف.. فمدينة صنعاء القديمة عند أحدهم هي عبارة عن: (متحف فني مفتوح) أما شبام حضرموت فقد عدها غالبة من زارها أنها: (أول ناطحات سحاب في العالم).. هذا طبعاٍ غير آراء وانطباعات أخرى ـ ليس هذا مجال تعدادها أو حصرها ـ عن مدن مثل زبيد وصعدة والهجرة والطويلة والجوف …إلخ
إن العمارة وبشكل عام ـ حسب المهندس شهوان محمد ـ واحدة من الرموز الثقافية المادية والتي تعد مرآة تعكس تعاقب التاريخ بتطوراته وتغيراته.. وهكذا فإن العمارة هي من (أكثر الوثائق التي يمكن اعتمادها في إعادة بناء تصورنا عن الماضي.. فهي تعطينا مباشرة المعاني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في المكان والزمان).
أما بالنسبة للعمارة اليمنية فقد كانت وعلى مر العصور تمثل السجل الحقيقي المعبر عن حضارة الإنسان وتطوره وأسلوب حياته وذلك من وجهة نظر عبدالحكيم طاهر والذي يرى أن الحضارة الراقية قد تركت لنا في مدنها ومراكزها الحضرية تراثاٍ معمارياٍ يواكب متطلباتنا حتى اليوم.. لذا فهناك (مزايا كثيرة ومتعددة تزخر بها العمارة اليمنية والفن المعماري اليمني والذي أبدع اليمنيون كثيراٍ في رسم تحف معمارية فريدة ونادرة).
إن القيمة التاريخية للعمارة الطينية في اليمن.. إضافة إلى قيمها ومعاييرها الجمالية المتجسدة في كثير من المدن التاريخية.. كانت من أهم عوامل الاهتمام الدولي بها.. حتى أن منها ما تم إدراجه في قائمة التراث العالمي في اليونسكو مثل مدينة صنعاء القديمة وشبام حضرموت ومدينة زبيد والتي أعلن عنها كتراث إنساني عالمي وذلك في المؤتمر العام لليونسكو ـ بلجراد1980م ـ والذي اتخذ قراراٍ بالإعلان عن حملة دولية لحماية وصيانة هذه المدن الثلاث.
إلهام الطين
منذ ما قبل التاريخ ـ حوالي عشرة آلاف عام ـ عْرف التراب والطين فشاد إنسان الحضارات الأولى مساكنه ومعابده وقصوره بهذه المادة.
فسور الصين العظيم مشيد بمعظمه من الطين والتراب الخام.. وهو ما نجده منتشراٍ في حضارات أخرى مثل حضارة بلاد الرافدين ومصر الفرعونية وحضارة الهنود الحمر والمكسيك إضافة إلى الحضارة الهندية والرومانية والإسلامية.. أما في الوقت الحاضر فهناك ما يقارب من ثلث سكان العالم والذين يعيشون في منازل طينية.
لحظة.. لكن ما هو الطين..¿!
إنه وحسب التعريف العلمي وكما يوضح لنا المهندس اليمني صالح عبد الله بقوله: الطين أساساٍ ناتج عن تحلل الصخور النارية.. وهو لذلك مركب من دقائق صغيرة متبلورة من سيلكا الألمنيوم.. وتعتبر اللزوجة من خواصه الطبيعية وذلك عند إضافة الماء إليه.. لذا نراه يتدرج من الأبيض الفاتح إلى البني الغامق وبالنسبة لوزنه فيبلغ مابين 1400 إلى 1800 جرام في المتر المربع وذلك حسب درجة التماسك.
وإذن لماذا الطين بالذات..¿!
الثابت علمياٍ أن الطين هو من أفضل المواد العازلة للحرارة.. يضيف المهندس صالح عبد الله: يتكون النقي منه أو ما يطلق عليه الصلصال من حوالي 46.5 % من سيلكا الألمنيوم ـ ثاني أكسيد الكربون ـ و39.5 % من ثلاثي أكسيد الألمنيوم.. بالإضافة إلى حوالي 14 % من الماء.. فهو تشكيل معقد من السيلكون والألمنيوم والهيدروجين.. وهو ما يجعل العمارة الطينية أكثر تميزاٍ من العمارة الأسمنتية.. فحسب المعماري سالم خميس فإن الجدران الطينية تعتبر عازلاٍ جيداٍ للحرارة والبرودة فلا تسمح بسرعة انتقالها من غرفة إلى غرفة.. إضافة إلى سهولة التعامل مع الطين أثناء البناء حيث يسهل تشكيله وزخرفته.
أما على مستوى آخر وهو البعد النفسي والذي تطرقت إليه الكثير من الدراسات والأبحاث التي أثبتت أن الطين له تأثير نفسي إيجابي على الإنسان.
أنماط واستخدامات
(الأحجار ـ الجص ـ الخشب) هذه بعض من مواد البناء التقليدية المستخدمة في العمارة اليمنية.. ويأتي الطين في مقدمة هذه المواد وذلك بسبب توفره في البيئة وسهولة الحصول عليه وسهولة تشكيله.. ولعلها عوامل هامة جعلت الإنسان اليمني يعتمد الطين كمادة رئيسية في بناء كثير من المدن مثل صنعاء وصعدة وشبام حضرموت والجوف.. فالطين من المواد التي لها استخدامات متنوعة كالتالي:
1 ـ اللبن أو الطوب الطيني: يستخدم الطين بشكل وحدات بناء أبعادها (10*16*32).. يخلط ويجفف بالحرارة الطبيعية للشمس.. والنموذج هنا نجده في مدينتي صعدة والجوف.
2 ـ الطوب: يوضع الطين بشكل قوالب أبعادها (7*17*17).. ويتم حرقه بأفران خاصة.. وأشهر النمادج هنا متمثلة في مدينة صنعاء القديمة.
3 ـ الزابور: في هذه الطريقة يتم خلط الطين بالتبن ويترك مع الماء ليتخمر لمدة يومين.. ويستخدم بعد ذلك في بناء الحوائط على شكل حزام يشكل تعرجاٍ عند الأركان.. أو يستخدم في تغطية الأسقف الخشبية في الغرف والعناصر الخشبية في الجدران ويسمى حينئذ بـ(الملاجة).. وهو ما يمثل مدينة شبام حضرموت كنموذج.