تبدو العلاقة ضئيلة بين مهنة الطب وبين ما هو موجود في محافظة تعز باسم هذه المهنة وهذا ما جعل أبناء المحافظة يكتفون بمشاهدة الأطباء عبر وسائل الإعلام فالواقع غيبهم عن الناظر .. خاصة عند معرفة أن غالبية الأطباء المتواجدين في عاصمة الثقافة إما طبيب يعمل بالخبرة أو زميل له يحمل شهادة الابتدائية أو الإعدادية إما عن حملة شهادة الدبلوم فهم قلة ولكن ليسوا بندرة أولئك الذين يحملون شهادة البكالوريوس وفيما يخص الأخصائيون فهم ضيوف شرف في مستشفيات الحالمة لتتحول تلك الأماكن إلى جسور عبور للدار الآخرة..
وبالنسبة للجهات المختصة كمكتب الصحة في تعز فقد آثر السكوت عن التعليق على واقع مر .. تفاصيل أكثر عن هذه المشكلات الصحية تجدونه في هذا التحقيق:
“ما يشفقوش على أحد” .. هكذا قالتها بلغتها الدارجة وهي تذرف الدموع الحارة على خدها في سكرتارية مدير مستشفى الجمهوري بتعز وأردفت قائلة: “ثلاثة أيام ولم أذق طعم النوم” .. بتلك الكلمات المحزنة عنونت “صفية قائد قائد” قصتها المأساوية التي وضعت الواقع الصحي بمحافظة تعز في صورة مصغرة تتراءى لأصحاب القرار في الحكومة “إن كانوا يعقلون”.
صفية قائد من محافظة إب مديرية ذي السفال زوجة لرجل أصيب بالجنون منذ فترة وترك لها خمسة من الأبناء والبنات دون مصدر دخل يحميهم من جوع الزمان ورغماٍ عنها تقمصت المرأة دور الرجل في العمل والأم في الحنان ولم تكن تفكر المرأة قط بما يخبئه القدر لها من مصائب وعلى حين غفلة منها أصيبت إحدى بناتها بمرض استدعى إسعافها إلى المستشفى في الوقت الذي لا تملك فلساٍ واحداٍ فقام أحد الجيران بمنحها مبلغ عشرين ألف ريال وعلى عجل قامت الأم بنقل ابنتها إلى عيادة خاصة بمدينة تعز بعد أن تعدت ما يسمى بالوحدات الصحية والمراكز ومستشفيات المديريات التي على طريقها لأنها تقع بين حالتين لا ثالث لهماº الأولى أن بعضها مغلقة لأسباب عدة أبرزها غياب الكادر والثانية وهو الأسوأ أنه لا فائدة منها فلا علاج ولا أطباء “ولا هم يحزنون” وفي هذه العيادة تم استغلال المريضة مادياٍ وأخذ المبلغ بالكامل دون أن يقوموا بمعالجة المريضة نتيجة غياب الكادر المؤهل!!
بعد ذلك تم تحويل الحالة إلى المستشفى الجمهوري العام ولعل ما قامت به هذه العيادة هو الوضع السائد في أغلب مؤسسات القطاع الخاص الطبي.
الوجه الآخر
انتقلت الأم ومريضتها إلى المستشفى الجمهوري وأمل الشفاء يسابق خطواتها لكنها لم تجد ما تبحث عنه -فقط- بل وجدت الموت يوزع بالمجان على أناس كثير ففي القطاع الحكومي لن يجد المريض ــ في الغالب ـ لا سريراٍ ولا طبيباٍ متخصصاٍ ولا علاجاٍ ولا حتى دورات مياه نظيفة ــ أعزكم الله ــ وهو الأمر الذي عاشته الأم وابنتها إذ مر عليها ثلاثة أيام ولم تجد من ينقذ ابنتها من الأطباء.
لم يكن هذا الوضع في المستشفى الجمهوري فقط فالمستشفيات كلها صورة طبق أصل لهذا النموذج وبما أن أصل المشكلة هو محدودية المتخصصين في المجال الطبي فقد زاد على ذلك تقاعس وإهمال هؤلاء القلة عن أداء مهامهم وقد أكد ذلك ما رصده “كاتب التحقيق” في مكتب مدير مستشفى الثورة بتعز عندما جاء شابان وطرحا للمدير شكوى بموظف يعمل في أحد الأقسام الطبية قالا إنه منذ الصباح وهو يماطلهم في تنفيذ ما جاءوا لأجله فحيناٍ يخرج إلى البوفية بداعي تناول وجبة الإفطار وحيناٍ يخرج لشرب السجارة وباقي الوقت يقضيه في مشاغل خاصة كالجوال والحديث الجانبي وعند الظهيرة قال الموظف لهما بالحرف الواحد “ما فيش معي وقت” وانطلق إلى الخارج عائداٍ إلى منزله وبهذه الشكوى تكون الصورة قد اكتملت عن الصحة بتعز .
الأخصائيون
الناس هنا يبحثون عن الطبيب الأخصائي كما لو أنه “طائر العنقاء” أو “غول الجاهلية” نظراٍ لاستحالة وجوده ولذلك يجد المواطن نفسه مضطراٍ لتلقي وصفات العلاج من صيادلة وصحيين وإذا تطور فمن مساعد طبيب وإذا ما قدر الله وقام الأخصائي بزيارة لبعض المرضى فهو لا يسمع منهم عن مرضهم سوى “أنا مريض يا دكتور” فيقرر له العلاج تلقائياٍ ليتساوى الطبيب الأخصائي مع طبيب الخبرة وكل تلك “الزحمة” لأنه مشغول بمستشفيات خاصة تدفع له أكثر ومن هنا تأتي الأخطاء الطبية.
إن المتأمل في أعداد الكادر الطبي هنا في تعز لن يستغرب من هذا الوضع المأساوي فعدد الأخصائيين 37 أخصائياٍ منهم أخصائيتان وفي حال توزيع هؤلاء على كافة الأقسام بغض النظر عن القسم الذي يخلو من الأخصائيين فإن نصيب كل قسم ــ على وجه التقريب ـ اثنان فقط وهذا يعني أن نصيب كل مليون ونصف المليون من سكان تعز من الأخصائيين في كل قسم أخصائي واحد “ويا ليت الناس يجدونه للنظر إليه وحسب “ما عاد يشتوا علاج”!
من جهة أخرى تعاني العديد من الأقسام في أغلب المستشفيات من انعدام تام للأخصائيين فيها كقسم القلب مثلاٍ وندرته في أكبر المستشفيات كهيئة مستشفى الثورة فقد صرح مدير عام الهيئة أن قسم القلب فيه أخصائي واحد.
شحة الكوادر ليس محصوراٍ على الأخصائيين فأطباء العموم أيضاٍ في ذات المشكلةº فعدد الأطباء في المحافظة بحسب إحصائية حديثة 563 طبيباٍ موزعين على جميع المرافق الصحية بالمحافظة وتظهر حجم الكارثة في حال تم توزيعهم بالعدالة على جميع المرافق البالغ عددها 394 مرفقاٍ مع مراعاة حجم المرافق فسيكون نصيب كل مستشفى عام وريفي 7 أطباء وطبيب واحد لكل مركز صحي ووحدة رعاية صحية أولية أما التمريض فتخيلوا عاصمة الثقافة ذات الأغلبية المتعلمة لا يوجد فيها ممرض جامعي وهذا بحسب آخر إصدار إحصائي رسمي -عن الجهاز المركزي للإحصاء في يونيو من العام الماضي- أيضاٍ تشير الإحصائيات إلى عدم وجود طبيب متخصص في الأطراف الصناعية ولا في العلاج الطبيعي ولا في طب المجتمع ولا أخصائي في أشعة X مع العلم بأن هذه الأقسام موجودة في مستشفياتهم أما القسم الذي كان يفترض أن يكون الأطباء فيه بوفرة وهو قسم الأمراض النفسية فلا يوجد فيه سوى 6 متخصصين وفي التخدير 8 وقد أثارت هذه الأعداد المتواضعة أسئلة عمن يعالج الناس في المستشفيات خصوصاٍ في الطب الطبيعي والأطراف الصناعية وهل يعقل أن 6 أطباء نفسيين يعالجون جميع المرضى النفسيين الكثر وكذا التخدير كيف لهم أن يجوبوا كامل مستشفيات المحافظة وهذا على افتراض أنهم مخلصون في عملهم ولا يذهبون إلى المستشفيات الخاصة .
أيضاٍ
يبلغ عدد الفنيين في جميع أقسام مستشفيات تعز حوالي ألفين وخمسين فنياٍ منهم 807 ممرضين و10 أشعة إكس و2 علاج طبيعي وأطراف صناعية و21 فني تخدير وفي ذات السياق هناك مئات الموظفين في القطاع الصحي بتعز بمن فيهم الإداريون يعملون بدون شهادة “خبرة” وآخرون بشهادات ابتدائي وإعدادي وثانوي ودبلوم بعد الإعدادية والثانوية منهم 213 موظفاٍ في مستشفى الثورة. وبعض هؤلاء يعمل كبدل فاقد في القسم الذي لا طبيب له وبدل اشتمال للقسم المشغول طبيبه بالخاص وليس هذا فحسب فهناك أشياء أخرى أفصح عنها نائب مدير عام المستشفى الجمهوري بتعز الدكتور عبدالرحمن الأزرقي والذي انتقد السياسة الصحية بشدة وقال: “رغم أننا نعاني من نقص كبير في الكوادر المتخصصة إلا أننا نجد فوق ذلك الأمور تدار بفساد من جهة وعشوائية مفرطة من جهة أخرى ومن ذلك توزيع الاعتمادات. فمثلاٍ ميزانية الجمهوري 80 مليوناٍ بينما الثورة مليار .. مع أن الأطباء والأسرة والعمليات بنفس العدد تقريباٍ. أيضاٍ عشوائية في توزيع المرافق الصحية فهناك أماكن لا يوجد فيها أي مرفق أما عن الرقابة فهناك ــ مثلاٍ ـ المستشفيات الريفية كلها مغلقة باستثناء اثنين منهم والدولة تصرف للكل كامل المستحقات المالية أيضاٍ في العلاجات هناك أدوية مقلدة ومهربة ومغشوشة دون أي وجود للرقابة .. وهلم جرا”.
عذاب عام
تمتلك محافظة تعز عدداٍ لا بأس به تصل إلى 394 منشأة صحية منها عشرة مستشفيات عامة و18مستشفى ريفياٍ و138 مركزاٍ صحياٍ “بدون أسرة للمرضى” و228 وحدة رعاية صحية أولية وفي تلك المنشآت أكثر من ألفي سرير ــ بحسب الإحصائيات الرسمية – لكن ما يحدث أن أغلب هذه المنشآت “لا تسمن ولا تغني من جوع” ففي الزيارة التي قام بها كاتب التحقيق مع نشطاء مهتمين بذات الشأن إلى عدد من المستشفيات العامة والحكومية وبعض المراكز مع نشطاء مهتمين بذات الشأن إلى عدد المستشفيات العامة والحكومية وبعض المراكز والوحدات الصحية تبين أن أغلب المستشفيات الريفية والمراكز والوحدات الصحية هي إما مغلقة بشكل تام بسبب عدم وجود كادر طبي أو مفتوحة ولكن بدون كادر أو أجهزة أو دواء وبالتالي هي بحكم المغلقة. علماٍ بأن هذه المستشفيات يتواجد فيها حوالي 500 سرير حسب الإحصائيات الرسمية وبما أن أغلب هذه المرافق بنيت في الريف الذي يمثل حوالي 70 % من إجمالي سكان تعز وهي الآن في حكم العدم فقد صار لزاماٍ على المواطنين التوجه إلى المستشفيات المركزية الثلاثة بالمدينة وهي: “الثورة والجمهوري والعسكري” إلى جانب 7 مستشفيات عامة أغلبها تخصصية بأمراض معينة مما أدى إلى ضغط كبير على تلك المستشفيات وفاق كثيراٍ طاقاتها الاستيعابية فعدد الأسرة في “الثورة” حوالي 300 سرير بحسب إفادة مدير هيئة مستشفى الثورة الدكتور أحمد أنعم. أما في الجمهوري فعددها 250 سريراٍ ويقارب هذا العدد في العسكري أما بقية المستشفيات فالأسرة فيها أقل من هذا الرقم بكثير أي أن عدد الأسرة بتعز تصل إلى ألف سرير وقد تزيد قليلاٍ وقد أكد ذلك نائب مدير عام المستشفى الجمهوري الدكتور عبدالرحمن الأزرقي الأمر الذي يشكك في إحصائية وزارة الصحة من أن عدد الأسرة تجاوز الألفي سرير.
ختاماٍ
القائم بأعمال مدير مكتب الصحة بتعز ونائبه رفضا التعليق على الأوضاع الصحية المتردية بالمحافظة غير مكترثين بما سيحدث وقد بررا رفضهما بتدهور الوضع العام في البلد وأن الصحة جزء منه مما يجعل الوضع الصحي في تعز على شفا كارثة .