
فتحي الطعامي –
السادس والعشرون من سبتمبر هو عيد نتذكر فيه التضحيات التي قدمها اليمنيون في مقاومة الحكم الإمامي المستبد .. وتهامة جزء من هذا الوطن الكبير حيث قدم أبناؤها دوراٍ بارزاٍ في مقاومة الظلم فقد ظلت عصية على ذلك الحكم الذي انتهك كل شيء الأرض والانسان والقيم .. وقدم أبناء هذه المنطقة آلاف الشهداء والجرحى منذ عشرينيات القرن المنصرم وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر في 1962م حيث تؤكد الوقائع والوثائق أن العديد من قادة المقاومة في اليمن كانوا يلوذون بهذه المنطقة ويستعينون برجالها الذين ظلوا يرفضون ذلك الحكم فحروب عديدة ومواقف كثيرة وشخصيات قوية خاضت تلك الحروب لكن ذلك كله لم يعط نصيبه من التوثيق والإنصاف لما قدموه من تلك التضحيات حتى نسي كثير من ذلك ..
واليوم ونحن نقف بعد مرور خمسين عاماٍ من الثورة ضد الظلم والتجهيل والتهميش حري بنا أن نستذكر بعض ما حصل في هذه المنطقة ..
على أن ما سيتم التطرق له هو جهد فردي تعاون فيه بعض أبناء وأحفاد الشهداء أو ممن عايشوا تلك المرحلة من كبار السن كونه لم يتم توثيق تلك المرحلة المهمة في تاريخ اليمن خاصة في هذه المنطقة وهو ملف يمكن أن نقول أنه بوابة بسيطة تستثير الكتاب والمثقفين والباحثين للخوض في التطرق إلى تاريخ هذه المنطقة ..
فتحي الطعامي
مقاومة الظلم مهدت لثورة سبتمبر :
يقول البردوني في كتابه (اليمن الجمهوري) أن الحروب التي خاضتها منطقة تهامة وبالأخص قبائل الزرانيق ضد الحكم الإمامي طوال عقود ما قبل الثورة مهدت لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م كونها أضعفت قوة الإمام يحيى ومن بعده الإمام أحمد وخلخلت تماسك .. دولتهم ..
وهو ما حصل فالحروب التي خاضها أبناء الزرانيق أقوى قبائل تهامة في مقاومة الإمام كانت ما يربو عن 40 حرباٍ ومعركة تكبد خلالها الإمام خسائر كبيرة ويظهر ذلك جليا من خلال قصائد ولي العهد أحمد يحيى حميد الدين والذين أظهر فيها قوة مقاومة أبناء هذه المنطقة ..
محطات تاريخية من المقاومة التهامية :
من الأيام الأولى لدخول الجيوش الإمامية الى منطقة تهامة بدأ صدامها مع قبائل تهامة ابتداء بالحرب مع قبائل العبسية والرامية والقحرى وهي قبائل تقطن مناطق تقع شرق مدينة الحديدة إضافة إلى صدامها مع قبيلة الزرانيق في بداية القرن المنصرم وبالتحديد عام 1925م حيث دارت معركة كبيرة بين القوات الإمامية وبين قبيلة الرامية وبالتحديد في قرية عواجه إضافة إلى الحروب المتعددة مع قبيلة القحري.
- في مارس 1925م وبتأثير الثقافة الرافضة للظلم الإمامي في منطقة تهامة اشتعلت الحرب بين القوات الإمامية وبين قبائل الجرابح بالزيدية شمال مدينة الحديدة وحدثت معركة كبيرة.
وحدثت معركة أخرى في اغسطس 1928م عندما تحركت جيوش تابعة للإمام يحيى يقودها نجله أحمد لتأديب قبائل الزرانيق التي رفضت دفع أموال لهم .. وقد وجه ( احمد ) رسالة الى قبائل الزرانيق كما يذكر ذلك ( …… ) قال فيها ( .. هذا بلاغا منا اتباعا لأمر ربنا واقتداء بنبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم الى كافة مشايخ قبائل الزرانيق ( أهل اليمن ) أصلح الله ما ظهر منهم … أعلموا أننا قد وصلنا الى هنا بأمر أمير المؤمنين (( الى أن قال ) ونحذركم الخلاف والتنكيب والاعتساف وسفك الدماء وإثارة الدهماء فإن سلكتم طريق الصواب عاد جوابكم بالوصول وإن اخترتم طريق الشيطان فهذا بلاغ للحجة …. ).
رفض أبناء الزرانيق هذه الرسالة واعتبروا أنهم لا يمكن أن يمارس عليهم الظلم وعليه نشبت معركة في منطقة الجحبا العليا والسفلى وكان هناك مقاومة شديدة من قبل قبائل الزرانيق لكن العدة والعتاد والأفراد لم يكونوا متساوين وهو ما دفع بالزرانيق للتراجع ( تكتيكيا ).
وفي 8 أكتوبر تحرك جيش الإمام الى الفقيه قلب الزرانيق وهناك أحاطت به القبائل في منطقة كتف الشعوب المقلوب وحصلت معركة كبيرة وقوية سقط خلالها العديد من القتلى في صفوف جيش الإمامة مما أوجد حالة من الذعر والخوف في صفوف جيشه وانتهت المعركة بهزيمة جيش الإمام بعد أن كان من بين القتلى قادة جيشه ..
بعد ذلك عمدت قبائل الزرانيق إلى توجيه ضربات خاطفة وسريعة على الجيش الإمامي في المناطق التي كان يتواجد فيها خاصة منطقة غليفقه أسهمت في إضعاف قوته …
معارك وادي الجاح.
تعتبر من أقوى المعارك التي وقعت بين جيش الإمام بقيادة ولي العهد أحمد وبين قبائل الزرانيق وكانت في ديسمبر 1928م وبعد أن قام جيش الإمام بالتحرك الى منطقة الجاح أخذت قبائل الزرانيق كما يقول ( الإرياني في صادق التحاقيق ) بتوجيه ضربات قوية عملت على اضعاف قوة الجيش وهو ما أجبر قائد الجيش (أحمد على الفرار ) برفقة مجموعة من جيشه.
في 19 يناير 1928م قام أحمد حميد الدين بعمليات سلب ونهب وقطع للأشجار في منطقة الدريهمي وهو متجه الى منطقة الجاح من جديد إلا أن قبائل الزرانيق خاضوا ضده معركة قوية في منطقة الجاح.
وبسبب المعارك التي خاضها الإمام مع قبائل الزرانيق في منطقة الجاح ألقى ولي العهد احمد قصيدته المشهورة التي قال فيها:
صاح إن الجاح قد أضنى فؤادي
وكسا عيني أنواع السهاد
لم أجد جيشا وعونا للذي
رمته إن خضت بحر للجلاد
ويشرح وضع جيشه فيقول :
فجميع الجيش عندي نصفه
هده السقم بأفات شداد
ويستخدم الدين والتحريض فيقول :
جاهدوا بالمال والأنفس ألم
يك حقا ويح أرباب العناد
قاتلوا البغي أما قد سمعت
وأطيعوا الله هل من اعتماد
أبكم شك بما قد صنعت
عصبة الباغي بهاتيك البلاد
حكموا الطاغوت في دين وفي
أنفس والمال مع الاعمال عاد
ولهم كم من ذنوب ارتكبوا
ليس في الامكان حصر الاعتياد
وبالرغم من الامدادات المستمرة من قبل الإمام يحيى لنجله الذي كان يقود الجيش في حربه على تهامة إلا أن الأخير لم يتمكن من الانتصار بسبب صلابة تلك القبائل وقوة شكيمتهم .. وقدرتهم على خوض المعارك .. وعلاوة على ذلك رفضهم للظلم الإمامي
1- يوم الجلة أو واقعة القيسي .
بعد وصول السيف أحمد إلى الدريهمي قام مع قادة جيوشه المنتشرة على كل المحاور محاصرة المقاومة ببلاد الزرانيق بالتنسيق للهجوم الشامل من كل الجهات في وقت واحد وهدف من ذلك إلى تشتيت قوى المقاومة مع الكثرة العددية واستخدام أحدث الأسلحة الإيطالية ..
حيث تقول رواية المعمرين ( كبار السن ) من الذين شاركوا في تلك الحرب (وفي يوم الاثنين.. تقدم القاضي قيس من القاهرة إلى الشط غرباٍ إلى الجرب والمجرب والحماسية والجربشية وتتابع الهجوم إلى سائلة الجلة وعند الغروب طرح الجيش على جروف سائله الجلة طلب الشيخ يحيى منصر والشيخ محمد سعيد مقبول ومحسن مشهور المنام ببيت الفقيه رد عليهم بالعنف يتم التقدم الصباح لفتح بيت الفقيه ولو يضحي بألفي جندي من الجيش طلبوا منه وثيقة بأيديهم إذا حصل عليه من القبائل شيء هم غير مسئولين حرر لهم ذلك ونام على أرض الجلة القاضي قيس والجيش وقامت الزرانيق والمجاملة وبني المقبول في سواد الليل بالجموع الغفيرة ولما أصبح الله بالصباح يوم الثلاثاء..ضرب المارش العسكري بالبورزان بالتقدم إلى بيت الفقيه ضربت الضربة الطاحنة والتقى الجيش والزرانيق والمجاملة وبني المقبول واختلط الجيش والقبائل واظلم النهار واشتد القتال المرير حتى لم يعرف العسكري من الزرنوقي وانكسر الجيش وهرب يريد القاهرة ودارت المعركة ومطاردة الجيش حتى صارت ذخيرة البارود مع السحاب ولم يصل من الجيش القاهرة إلا شيء يسير وأصيب فرس القاضي قيس في قرية الدلاشاء وقتل القاضي هنالك وتولى غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في قرية الضبيرتين الفقيه حسن عمر معروف وقتل في هذه المعركة مع الجيش والزرانيق ما يزيد على أربعة آلاف قتيل غير المحاشيم واخذوا الزرانيق الجبخانة والسلاح والجمال والبغال والحمير.)
- معركة الحسينية والقصرة .
بدأ الهجوم الشامل في يوم صباح الاثنين رابع وعشرين من شهر ربيع الآخر1347هـ/التاسع من أكتوبر1928م واتجهت الجبهة الجنوبية بقيادة عامل زبيد الشامي ومعه حاكم زبيد الأنباري ومعهم حشود قبلية إلى جانب الجيش النظامي بالهجوم على الحسينية باعتبارها أحد المعاقل الرئيسية للمقاومة والموصلة إلى بيت الفقيه وكان بروز قادة المقاومة التهامية ومنهم الشيخ حسن أمحمد فاشق وعمر معوضة معروف وحسن عياش مشيخي ويلاحظ شاهد من المنطقة أن الهجوم كان من عدة محاور فيقول :- (لما كان بتأريخ شهر ربيع آخر في نحو 24 الموافق يوم الاثنين سنة 1347هـ /التاسع من أكتوبر1928م كان هجوم جيوش الإمام يحيى…لبلد الزرانيق فكانوا ثلاث فرق أو أربع :-أحدهم المقدم عليهم عامل زبيد محمد بن عبدالله الشامي وكان نزوله من بلاد البداوية ومن بلد القراشية العليا والمحط والقراشية السفلى فالذي نزل من بلد البدوة وصل إلى الحسينية ومعه البعض من المحط ووقع قتل منه كثير ومن الزرانيق فكان من الزرانيق :- عمر معوضة معروف وهو الذي كان يحرض على القتال بجمع العرب وغيرهم وسالم أمحمد بن أمحمد ناصر الحجري وولده سلمان وهما رجلان صالحان فلا حول ولا قوة إلا بالله واثنان من بني الأشرم وقليل محاشيم فلحق نفر واحد من المعروف وقتل ابن عواش المشيخي…والذي نزل من الأربعين- قرية- رجعوه إلى الأربعين ووقع منهم قتل كثير والزرانيق سلمت والذين نزلوا من المحط الأسفل والقراشية السفلى رجعوهم إلى المحط وقتل واحد قرشي ووقع محشوم من القراشية وعلي سهل المشيخي حشم)( وهذا في وثيقة سليمان بن عبدالله بن عبدالهادي الاهدل .
- هجوم مضاد للمقاومة التهامية في الحسينية وغليفقة والطائف واللاوية .
بعد الهجوم الشامل من قبل القوات الإمامية والتصدي له من قبل المقاومة التهامية بدأت المقاومة تعد نفسها لحرب طويلة الأمد تستنزف القوات الإمامية بشرياٍ ومادياٍ وتلاقى طرحها في التحرر مع طموح الشعب فكانت حرب شعب .
فبعد السيطرة على الحسينية كانت هجمات المقاومة لاستردادها كما ذكر المؤرخون الرسميون للسلطة الإمامية فذكر زبارة :- (وفي يوم الاثنين غرة شهر جمادى الأولى – 1347هـ – وصلت تلغرافات من عامل زبيد محمد عبدالله الشامي الكوكباني ومن الحاكم الأخ أحمد الأنباري مفيدة في اليوم المذكور حصل التعدي من بعض قبيلة الزرانيق على مطرح أصحاب الإمام بالحسينية ودخلوا إلى وسط المحطة فكانت ملحمة جسيمة قتل فيها نحو الأربعين من الزرانيق وأخذت أسلحتهم وفر بقيتهم ..
نفذت المقاومة التهامية هجمات نوعية ومنها تلك الهجمات المتتالية والمفاجئة التي باغتت بها القوات الإمامية بعدما حاصرتها في غليفقة فحررتها في يوم الجمعة التاسع من جماد جمادي الآخر 1347هـ/الثالث والعشرين من نوفمبر1928م بعد يوم واحد من احتلالها ثم هجمت بقوة على الطائف ففر منه القائد العام سيف الإسلام أحمد إلى الدريهمي في صباح يوم الاثنين الحادي عشر جمادي الآخر /الخامس والعشرين من نوفمبر1928م وكاد أن يقع فريسة بين يدي المقاومة لولا قدوم تعزيزات قوية بقيادة الضمين والمروني واستخدام المدفعية وأكد المشاركون أن عبقرية أحمد فتيني تجلت في تلك الهجمات ( كما يقوله كبار السن من المنطقة ).
- المقاومة تقطع طرق المواصلات في الكويزي .
تعددت هجمات المقاومة التهامية في البر ومن البحر فقد اتخذ أحمد فتيني جنيد الجزر التهامية مقراٍ لشن الهجمات ضد القوات الإمامية ومنها هذا الهجوم الذي ذكرته الصحف ومؤرخ السلطة ومنها :-
1- الهجمات على ساحل الكويزي في شوال 1347هـ / مارس 1929م التي أكدها مؤرخ السيف (وفي أواخر شوال بلغ مولانا من الرؤية الصادقة أن إرادة بغاة الزرانيق يتألبون بقوتهم لمواجهة الطاغية أحمد فتيني إلى ساحل الكويزي المتوسط بين مرسى الطائف وغليفقة فقد وعدهم بخروجه من البحر وتقويتهم وإمدادهم ببعض المطلوبات والأرزاق والقوة التي يتمكنون منها الهجوم على مركز الطائف وغيره من المراكز ويستعينون بها على تطويل الفساد فتحرك مولانا أول نهار اليوم الذي ورد فيه الخبر بجيش إلى ساحل الكويزي ولما وصل طاف جهاته ورتب الجيش بمحلات للزوم وأمر من ساعته بإصلاح أماكن ومعاريش للجيش وسوق ما يحتاج إليه وأوصاه بالحزم والعزم ليلاٍ ونهاراٍ والترقب للبغاة والفتك بهم .)كما أورد ذلك المؤرخ الإرياني ..
2- معركة القوقر .
تعد معركة القوقر من أشهر معارك المقاومة التهامية في تصديها للقوات الإمامية وقد نالت شهرة واسعة لدى الكْتاب بشكلُ عام والقوقر قرية تقع شمال بيت الفقيه وتعد مفتاح مدينة بيت الفقيه وكانت المعركة في صباح الثلاثاء السادس والعشرين من ذي القعدة 1347هـ / السادس من مايو 1929م وهزمت المقاومة التهامية الجيوش الإمامية هزيمة كبيرة وكبدتها خسائر فادحة وقضت على مجموعة من القادة المشهورين في الحروب الإمامية ضد العثمانيين أو القوى المحلية كما فرضت تكتيكات حربية للمقاومة التهامية لم تستخدمها من قبل كتقييد بعض المقاومين لأنفسهم بسلاسل حديدية والقتال حتى الموت .. وقد قتل في هذه المعركة الآلاف من الجنود التابعين للإمام والعشرات من أبناء الزرانيق .. وأصبحت معركة القوقر من المعارك التي يتغنى بها أبناء تهامة لما كان فيها من قتال أبدى فيه الزرانيق شجاعة منقطعة النظير ..
وكثيرة هي المعارك التي خاضها أبناء الزرانيق ضد الإمام يحيى وأبنائه سيوف الإسلام انتهاء الى معركة سقوط بيت الفقيه التي استبسل فيها أبناء الزرانيق والعديد من القبائل مما التهامية إلا أن الحشود الكبيرة للجيش الإمامي ناهيك عن تواطئ بعض أفراد هذه القبائل مما سهل انتصار الإمام في 1929م إلا أن المقاومة استمرت حتى قيام 26/ سبتمبر / 1962م وهو ما اسهم في زعزعة قدرة جيش الإمام في تهامة .. وهي كما يقول المفكرون اليمنيون أو التقارير الدولية الانجليزية والايطالية والتركية ( أن تلك الحروب والمعارك ) التي خاضها الحكم الإمامي مع أبناء هذه المنطقة من بداية القرن المنصرم إلى سقوط بيت الفقيه عاصمة الزرانيق قد مهدت لقيام ثورة 26 سبتمبر وعملت على ترسيخ ثقافة المقاومة لهذا الحكم المستبد ..