الوطن المهاجر

عبدالعزيز البغدادي

 

 

مقولة : (الإنسان رأس المال) يستخدمها الاقتصاديون كما يستخدمها السياسيون للتعبير عن محورية الإنسان والتنمية البشرية في عملية البناء والتنمية الشاملة ، هذا الكائن المفترض أنه مميز عن بقية الكائنات بالعقل كما يقال والذي يوصف في علم الاجتماع بأنه مدنيٌ بطبعه تجذبه المدنية أي أن التجمعات البدوية والقروية الصغيرة تبحث غالباً عن تجمعات أكبر, ولهذا كانت الهجرة من الريف إلى المدينة داخل الوطن الواحد أو الجغرافيا الخاضعة لنفس السلطة والنفوذ كانت الصورة الأولى للهجرة والمنطلق إلى هجرة أبعد قبل وجود الدولة الحديثة أو المفترض أنها حديثة وقبل أن توضع الحدود كحل في نظر واضعيها للنزاعات المسلحة المحكومة بالنزعات العرقية وآيدلوجيا البطش والإخضاع لعشاق التسلط ، كانت الهجرة مفتوحة آنذاك وأرض الله واسعة أمام كل راغب فيها بلا جوازات ولا حدود, أي أن حرية السفر والهجرة كانت مكفولة واقعاً قبل أن يُنَصُّ عليها نظرياً وتُسلب عملياً من خلال تعقيد المعاملات والبيروقراطية الإدارية.
في ظل هذا الانسياب الإنساني كانت الهجرة اليمنية من أقدم الهجرات في التاريخ الإنساني قبل الإسلام وبعده, ولذلك نجد كثيرا من الجماعات والطوائف والتجمعات القبلية في العراق (المناذرة) وفي الشام (الغساسنة) وفي شمال أفريقيا وفي غيرها كذلك ينتسبون إلى اليمن التي تعرَّض أهلها لموجات من الهجرة في كل اتجاهات المعمورة ومنها هجرات ما بعد خراب السد (سد مارب ) العديدة ، وتشير كثير من المصادر إلى أن البذرة الأولى لكثير من دول ودويلات الجزيرة العربية مصدرها هجرة اليمنيين إليها, ولسنا هنا بصدد بحث تاريخي للتأصيل العلمي الدقيق ، لكن جوهر الموضوع هو الإشارة في هذا الحيز المتاح إلى أهمية الهجرة في التبادل المعرفي والحضاري بين البشر وأقصد الهجرة الاختيارية خاصة قبل أن تنشأ الجدران والحدود ، ومن المفارقات العجيبة أن الآثار الإيجابية المتبادلة للهجرات القديمة أشمل منها اليوم والسبب إن جاز التبسيط يرجع إلى مساحة الحرية في اختيار خيار الهجرة زماناً ومكاناً هروباً من واقع ما كانت متاحة أكثر، أما هجرة اليوم فإن الرأسمالية المتوحشة تكاد تكون وراء حصر وتقييد فرص الهجرة أمام غير التجار ورجال الأعمال وبما يخدم مصالح القلة.
يوم أمس عقدت ورشة عمل بعنوان : (الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية) أقامتها مؤسسة الخير لصاحبها ورئيسها رجل الأعمال الأنموذج الأستاذ المثقف علوان سعيد الشيباني ، ومن يطلع على مخرجات الورشة يُدرك أنه لم يسبق أن نُظمت ورشة بهذا المستوى من حيث أهمية موضوعها وجدية الدراسات المقدمة وتنظيم الفعالية وجعل الباب مفتوحاً أمام من لديه ملاحظات أو إضافات في الموضوع لتبقى الورشة شبه مفتوحة زماناً وموضوعاً لتعلقها بقضية من أهم القضايا اليمنية لما للمهاجر اليمني من دورٍ فعال في دعم الثورة أملاً في أن تكون أساساً لبناء الدولة اليمنية من خلال تحقيق أهدافها هذه الدولة الواقعة اليوم تحت التهديد والعدوان متعدد الأوجه والأشكال من دول الجوار التي أسهم المهاجر اليمني في بنائها ، ومن تعقيدات العلاقة الملتبسة بشكل مؤسف بين مكونات المجتمع اليمني.
هذا الدور الذي قامت به مؤسسة الخير ورئيسها المثقف بقدر ما يبعث على الأمل والبهجة فانه يذكر بقضية محزنة وهي أن حجم وفعالية دور الدولة في مثل هذه القضايا لا يكاد يذكر أمام جهد فرد أثبت أن لديه من الإحساس بالمسؤولية الوطنية ما يستحق التحية والتقدير والاحترام والجهود المشابهة التي تقوم بها مؤسسات أو رجال أعمال أو أفراد من أي فئة.
وبهذا يستحق هذا النموذج من أصحاب رأس المال أن يوصف بالوطني ،
إن المهاجر ذا الشعور الوطني اليقظ يوصف بأنه رسول أو أنه رسالة حية تمثل وطنه أو سفير غير رسمي ، والسفير غير الرسمي أبلغ أثرا وأعمق تأثيراً ممن تُكَبِّلُهم البروتوكولات العازلة عن المجتمعات فتحد من حركتهم وتجعل دورهم محدودا بحدود المجاملات وما يعرف بالنفاق السياسي, ولهذا كان المهاجرون اليمنيون إلى شرق وجنوب شرق آسيا عنوان خير ومحبة وأداة لنشر مبادئ الإسلام النقية القائمة على المحبة والسلام والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة قبل مجيء وانتشار وباء الدعوات الممولة والموجهة من خارج التنظيمات والحركات والجماعات التي حملت معها بذور الإرهاب باسم الإسلام إلى أنحاء العالم.
وطني يسكنني
أم أنا أسكنه
إنه أغنية في خاطري
وطني موطنه مجرى دمي

قد يعجبك ايضا