ما بين مومياوات مصر ومعبد بلقيس

وليد أحمد الحدي

 

 

احتفلت الحكومة المصرية – قبل عدة أيام – بنقل عدد من المومياوات من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط جنوب العاصمة، وفي مشهد يحبس الأنفاس استقبل الرئيس المصري 22 مومياء (18 ملكا وأربع ملكات)، في موكب لم تشهد له مصر مثيلاً عبر التاريخ، لم يكن ذلك مُجرد حدث عابر، أقامت الحكومة على هامش ذلك الحدث حفلاً كبيراً حَظيَ باهتمام أعلى سلطة في البلد، بحضور المدير العام لليونسكو والأمين العام لمنظمة السياحة العالمية, ونقلته 400 وسيلة إعلامية عبر العالم، أحدثت ضجّة كبيرة سيكون لها بلا شك الأثر الإيجابي الكبير على السياحة المصرية، لم يكن ذلك الاحتفال لمجرد الاحتفال؛ بل حَمَل في طيّاته كثيراً من الرسائل إلى جميع بُلدان العالم تُذكِّر أن هذه البلاد تستمد كيانها من إرث حضاري ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وأنها لا تزال قوية، كما أنها تفتح شهيّة السّياح والمهتمين بالآثار من جميع أنحاء العالم وتزيد ولعهم بالتاريخ الفرعوني، وهذا سينعكس إيجابا على القطاع السياحي الذي يشكل دخلاً قومياً هاماً يغذي اقتصاد البلد .
في عام 2007م أقدمت مجموعة من قُطّاع الطرق و (المتهبّشين) في محافظة مارب، على قتل عدد من سّياح أجانب كانوا يزورون معبد بلقيس، سبق ذلك العديد من حوادث الاختطاف على يد عناصر تنظيم القاعدة، كان لذلك الخبر وقعاً سيئاً جداً على الشركات التي تَعتمد في دخلها بشكل كامل على الأفواج السياحية القادمة من دول أوروبا وأمريكا الجنوبية، بعد أن انتشر كالنّار في الهشيم، تناقلت وسائل إعلام عديدة ذلك الخبر كما تناقلت اليوم الحدث المصري بِتفاصيله، أُدْرِجت اليمن بعدها ضمن قائمة الدول غير الآمنة التي تشكل أحد منابع الإرهاب، فيما حذّرت مُعظم دول العالم سيّاحها ورَعاياها من السفر إلى اليمن في ظل قيادة ومسؤولين اكتفوا بالفرجة ومُداراة المجرمين !!
اتضح في ما بعد أن ذلك – وللأسف – كان يحدُث بتشجيع ضمني من بعض قيادات نافذة رأت أن ما سيصُب في جيوبها من عوائد ابتزاز العالم بسبب الإرهاب, سيعود عليها أكثر مما سيعود على الاقتصاد الوطني من عوائد قطاع السياحة، والتي كانت تشكل نسبة 3% من الناتج المحلي، كان ذلك نهاية لعهْد كان السفر إلى اليمن بِمثابة حُلم لكثير من السّياح الأوروبيين والأمريكان الجنوبيين وغيرهم، أُطلقت رصاصة الرحمة على القطاع السياحي وأُقفلت شركات سياحية وسُرِّح موظفون عملوا في هذا القطاع لعشرات السنين دون أي مُعالجات, بعد أن أصبح الجواز اليمني مشبوهاً في معظم مطارات دول العالم ومنافذها ..!!
ما بيْن حفْل نقل المومياوات المصرية إلى فسطاط القاهرة وحادثة قتل السّياح في معبد بلقيس مارب، يكْمن السر الذي بسببه انهار قطاعَ السياحة، ويَكشف عن عقود عانَت فيها اليمن من الفساد والتسيُّب وغِياب الرؤية، من معبد الشمس وضواحيه – ذلك الصرح التّاريخي لحضارة عالميّة حَكَمت جنوب الجزيرة العربية – وُئِدت السيّاحة اليمنية, وأضْحى ذلك المكان خَلاء تُدفُن وجهَهُ الجميل رِمال الصحراء وكُثبانها، أصبحَ مرتعاً يستخدمهُ الهواة في (الشّخبطة) والقنص والرّماية على نقوشه وعمدانه التي لو عُثِر على واحدة منها في بلد غير اليمن لأقاموا لها متحفاً مُستقلاً..!!
القطاع السياحي الذي يُدفَن في بلد هو من أكثر بُلدان العالم وفْرة في الآثار، ونُقوش تعود إلى الألفية الثالثة والرابعة والخامسة قبل الميلاد، مُشكِّلا بذلك الموروث متاحف طبيعية وكنزاً لا يُدْرك قيمته الجَهَلة واللّصوص ..!!
تلك الكنوز والأحجار والتماثيل والمخطوطات التي تُسرق وتُهرَّب في بلد غَدَت فيه الآثار سِلعاً رخيصة تُباع وتُشترى في مزادات بيع الأوطان، وحتى الألحان التي لم تَسلم من السَّرقة أمام أعيُن أصحابِها وتُنسب لِكيانات ودويْلات مُستحدثة طارئة لا يتجاوز عُمرها مزرعة عنب في ريف بني حشيش أو كافتريا في أحد أحياء كريتر، يَحدث ذلك كلّه وللأسف على مرأى ومَسمَع من قيادات لاذت بالصّمت تحاشياً لأي صدام قد يسلبها بعض المنافع المادية التي لا تتناسب مع حجم وطن يُنهب، لتكون كلمة الفصْل في نهاية المطاف لِسماسرة الأوطان، وما اكتشاف وعْل يمني برونزي قبل عدة أشهر يعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد في أحد المتاحف الفرنسية إلا واحداً من الشواهد على جزء يسير من تِلْكم الجرائم وما خَفَي كان أعظم ..!!
هكذا تكون النّهايات عندما توكَل الأمور إلى غير أصحابها، والى أيادي غير أمينة لا تُدرك تلكَ القيمة التاريخية في زمن يحلو للبعض تسميته بالزَّمن الجميل، عندما توفَّرت كل المقوِّمات والأسباب الموضوعية التي كادَت أن تَجعل من اليمن قبلةً للسّياح من شتّى بقاع الأرض, ودخلاً قومياً يُضاهي النِّفط والغاز، لكنَّ الجوهرة للأسف كانت بيد فحّام ..!!
*رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي

قد يعجبك ايضا