هل تخضع للرقابة ؟

محطات ومعامل إنتاج وتعبئة مياه الشرب.. بين الإمكانيات والجودة

 

 

إذا لم يستطع الإنسان الارتواء بماءٍ صحيٍ مستساغ المذاق فإنها المأساة التي دفعت أجدادنا لقطع المسافات باتجاه المجهول بحثا عن ينابيع المياه العذبة أساس الحياة .. إلا أن المياه لم تعد آمنة وذات طعم مرغوب بالضرورة مع مخرجات الكثافة السكانية المتزايدة ، والتغيرات المناخية المهددة للحياة، والمخلفات الإشعاعية الخطرة، فضلاً عن النفايات، حيث لا مكان بعيد ترمى فيه ولا تعود إلينا ،كما أن عملية معالجة المياه وإن قتلت الكائنات الدقيقة مسببات الأمراض الشائعة سابقًا إلا أن كل الاحتمالات ماتزال واردة من الشعور بالغثيان والدوار إلى الإصابة بالفشل الكلوي و الأورام السرطانية والتسمم بالمعادن .. هذا ما تكشفه البحوث المخبرية ، والتقنيات المتطورة.. ما يفرض توفير المياه الصحية للمواطنين ورفع كفاءة محطات معالجة المياه ومصانع التعبئة للحصول على مياه صحية ، وتفعيل الرقابة العميقة ومساءلة الجهات المنتجة للمياه..

الثورة / سارة الصعفاني

تقع اليمن تحت خط الفقر المائي في المركز السابع عالميًا في شحة المياه، إذ لا أنهار ولا بحيرات بل مياه جوفية مخزونة في باطن الأرض تراكمت عبر آلاف السنين، يتناقص منسوبها دونما تغذية راجعة من مياه الأمطار الصيفية المصدر الرئيسي للمياه في البلاد، ما جعل نصيب الفرد 80 متراً مكعباً في السنة، بينما المتوسط الإقليمي والعالمي (1000 متر مكعب- 2500 متر مكعب)، إلا أن هذه المياه قليلة الملوحة دونما تدخلات بشرية إذ لا تتطلب تحلية ، وتتعرض للتنقية بصورة طبيعية أثناء مرورها عبر طبقات الأرض قبل أن تخضع لمراحل متعددة في عملية المعالجة وتختلف من بلد لآخر، إلا أن آلية معالجة المياه في بلادنا تختلف من محطة لأخرى ومن مصنع لآخر يحددها اختلاف الآبار والإمكانيات بل ومن وقت لآخر حسب متغيرات البلاد السياسية والاقتصادية والبيئية.
وتهدف عملية تنقية المياه في مرحلة ما بعد المعالجة إلى تخليص المياه من الملوّثات ذات الحجم الصّغير والّتي تكون ذائبة في المياه، ومنها بقايا الأسمدة والكائنات الحيّة الدّقيقة كالطّفيليات والبكتيريا والفيروسات إلى جانب الغبار التي لا يراها الإنسان بالعين المجردة.
وتخضع المياه في آخر محطات المعالجة إلى التعقيم بإضافة مركّبات الكلور بنسب محددة لتعقيم الماء وقتل بقايا الفيروسات والبكتيريا ، إلا أن عدم اليقين بشأن عملية المعالجة في الدول النامية تزيد من احتمالية إضافة المواد الكيميائية خاصة في ظل شحة المياه، وتهالك أجهزة المعالجة وفحص الجودة فضلاً عن عدم مواكبة التقنيات والبحوث العلمية.
ولا يخلو الأمر من استخدام المياه الرمادية ” العادمة ” مجددًا بعد معالجتها في إحدى محطات الصرف الصحي لتغذية الآبار والأنهار والبحيرات لإعادة الاستخدام.
لكن هذه المحطات مشكلة أخرى تكشف خفايا خطيرة ، ففي دراسة أجريت في عام 2013م على محطات معالجة المياه على مستوى العالم، نجحت عمليات المعالجة في إزالة نصف المواد فقط التي تظهر عادة في مياه الصرف الصحي، ويقدر عددها بنحو 42 مادة، مثل الكافيين، المضادات الحيوية.
محليًا، وجدت دراسة لمركز المياه والبيئة والعلوم في عام 2018م أن مياه الصرف الصحي المعالجة ماتزال تحوي صفات ميكروبية وبيولوجية أعلى من المستويات المسموح بها لأغراض الري.
يقول أندرو سينغر- كبير المسؤولين العلميين في مركز علم البيئة والموارد المائية التابع لمجلس بحوث البيئة الطبيعية “تعيش في نهر التايمز قائمة طويلة من الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض ..قد يفترض الكثيرون أن مياه الصرف الصحي المعالجة في محطات المياه ستكون نظيفة نسبيًا، لكن الواقع مخالف تمامًا.. كل ما نستطيع أن نجزم به هو أن عمليات المعالجة تعمل على الحد من مسببات الأمراض”.
لذلك تلجأ بعض مصانع ومحطات تحلية المياه إلى زيادة تركيز الكلور لضمان تعقيم المياه كونها غير معالجة كليًا وربما في ظروف معالجة سيئة إلا أن الكلور لا يجدي نفعًا بمفرده كما أن المقادير غير المدروسة تؤدي إلى التسمم، ويعتبر الكلور ومركباته في هذه الحالة مادة مسرطنة، وسبباً رئيسياً للإصابة بالفشل الكلوي وفي أهون الحالات يسبب الجفاف والحكة فضلاً عن قدرته على الإضرار بالكبد والمعدة إذ تفرز بعض الأحماض، لذا فإن بعض محطّات تنقية المياه في الدول المتقدمة استبدلته بالأوزون أو الأشعة فوق البنفسجيّة أو حتّى مركب بيروكسيد الهيدروجين ؛ وهذا ما يجب، فمحطات تحلية المياه هي في الأساس مختبرات صحية تراقب الجودة؛ يجب أن تخضع للرقابة والمساءلة.. ابتداء بمواكبة التطور في مسألة مياه الشرب أساس بقاء الإنسان ومصدر صحته.
في تقرير نشره موقع insider monkey فإن أفضل مياه شرب في العالم تتوافر في الدول الأكثر تطورًا وثراءً أو تلك البلدان التي تمتلك أنهاراً ومياه جبلية متدفقة وبحيرات نقية مثل: سويسرا ، النمسا ، نيوزيلندا ، السويد ، إسبانيا ، الدنمارك، النرويج ، استراليا ، كندا حتى باتت بعض الدول تتحدث عن أن مياه الحنفية بجودة ونقاوة المياه المعبأة في زجاجات.
تقول كاثرين زيراتسكي- اختصاصية تغذية مسجلة، واختصاصية تغذية مرخَّصة: في الولايات المتحدة بوجه عام، مياه الحنفية والمياه المعبأة متشابهة من حيث السلامة، لذا فإن الاختيار بين شرب مياه الحنفية أو تلك المعبأة أمر يتوقف على الذوق الشخصي.
وما تزال المياه الملوثة في البلدان النامية مشكلة كبيرة حيث الإمكانيات المحدودة ، والثقافة الصحية شبه المعدومة، والرقابة السطحية والأمراض الخطيرة، في حين أن مياه الشرب محصورة على أفراد لا خبراء وبإمكانيات محدودة في ظل أزمة مشتقات نفطية تقلص زمن المعالجة ، والنتيجة مشاريع صغيرة منتشرة للتكسب خلفت منتجات لا حصر لها ما يستوجب مضاعفة الرقابة وفقًا للقانون و تحت مظلة الدولة للتأكد من أن المياه في محطات التحلية والمعالجة ومصانع التعبئة مطابقة للمواصفات والمقاييس الفنية العالمية في إنتاج وتوزيع المياه بمعية المختبرات والخبراء أملاً في تقليص الأمراض التي تجاوزها العالم قبل قرون خاصة المنقولة عبر المياه .
وبحسب احصاءات منظمة الصحة العالمية بلغ عدد الإصابات بالكوليرا – المرض المنتقل عبر المياه الملوثة بالبكتيريا- هذا العام حتى شهر أكتوبر الماضي 204 آلاف و291 إصابة و 53 حالة وفاة فضلاً عن تفشي الإصابة بالطفيليات والطحالب والفيروسات والبكتيريا والديدان الشائعة كالأميبيا والجارديا.
وتتسبب المياه الملوثة ( خاصة الجوفية ) في وفاة 1.8 مليون إنسان سنويًا، 88 % بسبب اختلاط مياه الصرف الصحي بالمياه الجوفية، وقديمًا كانت الشعوب تفضّل استخدام المشروبات الساخنة خوفًا من تلوث المياه ،كتب المستكشف أوين لا تيمور يومًا ( المياه السيئة سبب شربنا المياه كثيرًا).
وحددت منظمة الصحة معايير صحية فيزيائية ،كيميائية ،بيولوجية، وإشعاعية لمواصفات مياه الشرب مؤكدة أن أي إخلال سيترتب عليه تردي جودة المياه التي يجب أن تكون عديمة اللون .. عديمة الرائحة .. وذات طعم مقبول على الأقل لكن الواقع أن للمياه في بلادنا طعماً مختلفاً باختلاف محطات ومصانع إنتاج وتعبئة المياه الآمنة والمقبولة التي يصعب تناولها والتي ترافقها أعراض الشعور بالمرض من غثيان ودوار ومغص للحظات ما يثير الشكوك.
من ناحية علمية ليس للمياه طعم إلا أن هذه المياه قد تحتوي على مكونات كيميائية غير عضوية مثل الكلوريد والحديد والمنجنيز والكبريت بكميات أعلى من حدود منظمة الصحة العالمية إن لم يكن شيء آخر.
هذه النسب من الأملاح والمعادن الثقيلة، أحد أسباب الإصابة بالفشل الكلوي .. عدم شرب المياه يتسبب أيضًا في الفشل الكلوي – بل يربط الأطباء حول العالم بين جودة المياه وفرص التعرض لأمراض العصر، ما يجعل وضع الملصق المدونة عليه نسب المعادن والأملاح ضرورة ، ويفرض السؤال عن مدى مطابقة البيانات المدونة في القنينة لمحتوى المياه فعلاً.
وتمر عملية تنقية المياه بمراحل تختلف من بلد لآخر تبعًا لمصدر المياه ونقاوتها واقتصاد البلد واهتمامه بمواكبة البحث العلمي إلا أن مياه الشرب في بلادنا محل اشتباه.. إذ لا تزال المحطات والمصانع تغلق لأسباب تتعلق بالترخيص، وعدم توفر الإمكانيات، وعدم وجود فنيين لمعالجة المياه ، لسوء التخزين ، بل ولغياب النظافة بحسب تقارير الجهات المختصة ، وتحقيقات استقصائية تكشف عن إعادة تعبئة المياه في عبوات بلاستيكية رديئة .
بلغة الأرقام ضبطت هيئة الموارد المائية في عام 2017م (100 )مخالفة من عدد(324) محطة للمياه ، وأصدرت تراخيص مزاولة مهنة بيع للمياه لـ 58 منشأة من أصل 137 طلباً، وخلال شهري يناير وفبراير العام الحالي خمسة مصانع للمياه أغلقت من أصل 38 مصنعًا للمياه في صنعاء، وما يزال الوضع غامضًا في محافظات الوطن.
الجدير بالذكر أن هذا التدهور في جودة المياه دفع بعض المواطنين المقتدرين لشراء أجهزة تنقية مصغرة لكن دونما إجراء الفحوصات الدورية واستبدال التالف وإزالة الترسبات .
وتبقى المأساة بالغة الخطورة في القرى حيث يقطعون المسافات لجلب المياه من منابع المياه السطحية مباشرة ( آبار ، سدود، ينابيع )وشرب المياه بعد أن تمر بقطعة قماش لا غير أو تتعرض للتسخين في حالات نادرة فضلاً عن كارثة تزويد المنظمات الإغاثية المواطنين كبسولات الكلور لـ تعقيم المياه ليصبح الأمر خاضعًا للرغبات والتوقعات، وهنا تكمن الخطورة الاضطرارية ، وما يزال 2.1 مليار شخص في العالم بلا مياه في البيوت.
في الوقت ذاته كشفت إحدى الدراسات أن 83 % من مياه الصنابير حول العالم ملوثة بألياف البلاستيك، محذرة من عبوات البلاستيك التي تعبأ فيها المياه .
وضع يذكر باستخدام الخزانات المصنوعة من الحديد الرديء المصدأ في نقل وتخزين المياه بعد عشرات السنين من الاستخدام، كما أن المياه المكررة المعبأة لفترات طويلة قد تؤدي إلى توالد البكتيريا مسببة التهابات حادة في المعدة والأمعاء فضلاً عن حدوث تفاعلات كيميائية خطيرة.

 

قد يعجبك ايضا