قيام ثورة 14 أكتوبر عجلت برحيل المستعمر البريطاني وقضى على أحلامه ومشاريعه في الجنوب

ذكرى الاستقلال بين زمنين ومشروعين

 

العمالة المزدوجة للسعودية والإمارات جعلت من عدن خلال الأشهر الماضية مسرحاً لاحتراب أهلي دموي

كما كانت ستينيات القرن الماضي زاخرة بيوميات النضال الوطني والقومي، فقد كانت حاسمة بالنسبة لمستقبل اليمن شماله وجنوبه، حيث توجت ثورتا سبتمبر وأكتوبر المجيدتان، بإعلان استقلال البلاد من الاحتلال البريطاني، وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي تمكنت خلال بضع سنوات من تحديث المجتمع، والانتقال به إلى مرحلة متقدمة من التعاطي مع الأفكار الأممية اليسارية، واحتضان رموز الاشتراكية في العالم العربي، لتغدو عدن رأس الحربة ومركز الثقل السوفيتي في المنطقة.
عبدالله علي صبري

(1)
وبرغم الصراع السياسي الذي عرفته الدولة في الجنوب، إلا أن المواطن اليمني المشبَّع بالأفكار الشيوعية كان يعيش مرحلة من النشوة والاعتزاز بالذات، وهو يرى في بلاده ملتقى للحداثة، ومصدر إشعاع تخشى القوى الإمبريالية من تمدده وسريانه إلى دول وممالك النفط في الخليج العربي.
كانت دول الجوار بالنسبة لليمني الجنوبي معسكرا رجعيا، وعنوانا للتخلف والبرجوازية، على عكس الدولة الناشئة في الجنوب التي أمكن لها التحرر كلياً من الاحتلال البريطاني، ورفض بقاء أي قاعدة عسكرية للإمبراطورية التي أفل نجمها مع صعود القطبين الكبيرين: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
صحيح أن الاستقلال كان نتاج المتغيرات الدولية الناجمة عن نتائج الحرب العالمية الثانية، إلا أن الثوار الجنوبيين لم ينتظروا الاستقلال كاستحقاق خارج عن الإرادة الوطنية، فعلى وقع الأفكار القومية والتحررية، وبعيد أشهر من قيام ثورة 26 سبتمبر في الشمال، شهدت عدن في 14 أكتوبر 1963م ثورة مسلحة عجَّلت برحيل المستعمر البريطاني وقضت على بقية أحلامه ومشاريعه في جنوب الجزيرة العربية.
كان على الثورة أيضا أن تلملم شتات الجنوب الذي قسَّمه المحتل إلى مشيخات وإمارات شتى، وعمل حثيثا على فصله عن اليمن الطبيعية، بل وكاد أن يجعل من عدن لوحدها دولة مستقلة بذاتها، وداعبته الأحلام بأن يستقر فيها إلى ما لا نهاية، لولا اليقظة اليمانية التي رفضت كل أنواع التسويات مع دولة الاحتلال، وأجبرته على أن يأخذ عصاه ويرحل متحسرا على زمن كانت فيها إنجلترا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
نجحت الثورة، ودارت عجلة البناء، فقدمت عدن نموذجا لدولة النظام والقانون، وبات على أبناء الريف والقبائل أن يتأقلموا مع الوضع الجديد الذي منح مختلف المواطنين قدرا كبيرا من العدالة والفرص المتساوية، ما ساعد على تذويب العصبية العشائرية، والحد من الفروق بين الطبقات الاجتماعية، خاصة أن التعليم أصبح في متناول الجميع في الأرياف والمدن، كذلك الأمر بالنسبة للمنح الدراسية في الخارج، والوظيفة العامة أيضاً، كما أن الخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى غدت من مسؤولية الدولة، ما جعل العبء خفيفا على الأسرة وولي الأمر فيها، ومنح الشباب مساحة واسعة للتعليم والانخراط في العمل والشأن العام، بل وانعكس ذلك على الحركة الثقافية، فنيا وأدبيا، وعلى العلاقات الاجتماعية ومكانة المرأة تحديداً.
وبالطبع، فإن الصورة لم تكن وردية تماما، فبالمقارنة حتى مع اليمن الشمالي، كانت دولة الجنوب هي الأفقر والأضعف اقتصاديا، كما أنها كانت شبه معزولة عن محيطها العربي الرأسمالي تقريبا، وإذا كانت قد وجدت متنفسها في الانفتاح على الاتحاد السوفيتي وكوبا وألمانيا الشرقية وغيرها من الدول الاشتراكية، فإن أوضاع المعسكر الشرقي نفسه تراجع سنة بعد أخرى، على عكس حال الغرب والدول الصناعية الكبرى.
الصراع السياسي الداخلي هو الآخر شكل عائقا أمام نهوض الدولة والمجتمع، وفي 13 يناير 1986م صحا العالم على ” القبائل الماركسية”، وهي تقتل بعضها بعضا في عدن على خلفية الهوية القروية، ما جعل المواطن الجنوبي يبحث عن منفذ للخلاص، وقد كان.
فعلى وقع تفكك الاتحاد السوفيتي، وتشكل النظام الدولي أحادي القطبية، وجدت عدن في الوحدة اليمنية فرصة للمراجعة والتغيير، ومدخلا للعودة إلى الذات من جديد.
(2)
عدن 2019م ليست ذاتها في 1967م حتما، لكن ثمة تشابهاً كبيراً بين الزمنين، فعدن ومعها الجنوب إجمالا ناضلت بالأمس بهدف التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهي اليوم تناضل أيضا لكن بهدف فك الارتباط عن الذات والهوية واليمن الطبيعية، مع فارق خطير يتمثل في قبول نخبة الحراك بالاحتلال الأجنبي السعودي والإماراتي بزعم محاربة “الحوثيين والمد الإيراني”.
الجنوب الذي كان عبارة عن إمارات ومشيخات قبيل الاستقلال، يبدو أنه في الطريق إلى التشظي مرة أخرى، فهناك عدة “حراكات” كلها تقريبا مرتبطة بالخارج، حراك إماراتي، وحراك سعودي، وثالث إيراني،…إلخ، وهناك ارتباطات لشخصيات سياسية جنوبية مع بريطانيا ومع أمريكا ومع روسيا، وغيرها، لكن الأسوأ أن الأفكار الوطنية المتطرفة بشأن الانفصال تفتقر للمشروع القومي أو الأممي والتي كان مناضلو ومثقفو عدن والجنوب يتفاخرون بها، بل والأدهى أن الدول الرجعية باتت الصديق لنخبة الحراك أو مرتزقته لا فرق.
ونتيجة لانحطاط قادة الحراك أمكن للعدوان السعودي تجنيد الآلاف من الشباب في الجنوب والزج بهم في معركة الدفاع عن الحد الجنوبي للمملكة، ليكون القاتل والمقتول “يمنياً”..!!
دم الجنوبي على الجنوبي لم يعد حراما أيضا، فالعمالة المزدوجة للسعودية والإمارات، جعلت من عدن خلال الأشهر الماضية مسرحا لاحتراب أهلي دموي طرفاه قوات الانتقالي الجنوبي والقوات المحسوبة على حكومة هادي، ولما تدخلت دول العدوان والاحتلال وأوقفت الحرب ورعت مفاوضات سياسية بين الطرفين، كانت النتيجة اتفاقا يمس بالسيادة الوطنية ويشرعن للاحتلال، ويمنح السعودية كلمة الفصل في شؤون اليمن الجنوبي إلى أجل غير مسمى.
(3)
لا يمكن الحديث عن الحراك الجنوبي دون استحضار الدور الكبير الذي لعبه الحزب الاشتراكي اليمني في الحياة السياسية اليمنية المعاصرة، سواء حين كان حزب السلطة في ظل دولة اليمن الديمقراطية الشعبية، أو حين غدا مجرد حزب معارض بعد حرب 1994م.
فالنجاحات والإنجازات التي يفاخر بها البعض حين المقارنة بين ما كانت عليه الدولة في الجنوب قبل الوحدة، وبين الأوضاع التي تفاقمت وازدادت سوءا بعد الوحدة (بالنسبة للجنوبيين على الأقل) تصب في الخانة الإيجابية للحزب الاشتراكي، الذي كان لقيادته الدور الكبير في إبرام اتفاقية الوحدة وإعلان الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م.
غير أن الحزب الاشتراكي هو ذاته الذي وقع على دستور الدولة الجديدة وطبيعته الرأسمالية دون مراعاة تأثير ذلك على مجتمع اعتمد على تخطيط الدولة لمختلف شؤون الحياة، وهنا يجب أن نصارح بعضنا بعيدا عن معزوفة المظلومية الجنوبية التي أجاد الاشتراكي وأحزاب المعارضة الوطنية توظيفها منذ ما بعد حرب 94م إلى أن تخلق الحراك الجنوبي في 2007م وفرض نفسه رقما صعبا في المعادلة السياسية والوطنية اليمنية.
هل كانت حرب 94م في جانب من أسبابها، نتيجة لتطرف القيادات الاشتراكية التي برعت في دغدغة مشاعر المواطنين وهي تتهكم من أسلوب قيادة وإدارة النظام السابق (صالح وقبيلته وحزبه) للبلاد؟ ثم لما أمكن التوافق على وثيقة العهد والاتفاق، رفضت تلك القيادات العودة إلى صنعاء ورهنت إرادتها وقراراتها لدى بعض دول الخليج..
ثم ألم تكن موازين القوى العسكرية لصالح الاشتراكي ولدولة الجنوب أصلا؟
ثم ألم يكن الحزب الاشتراكي منقسماً على نفسه بسبب الصراعات والثأرات القديمة، ومع ذلك لم يحسب حسابات نتائج الحرب مع نظام ودولة الشمال؟
وربما يطرح السؤال نفسه، ماذا لو انتصر الاشتراكي والجنوبيون في تلك الحرب، هل كانت اليمن ستصل إلى بناء دولة قوية حقا، أم أن العقلية اليمنية الحاكمة هي ذاتها في الشمال والجنوب؟
حسنا لقد خسر الاشتراكي الحرب، وغدا الجنوب غنيمة لنظام 7-7، الذي تصرف طرفاه (المؤتمر والإصلاح) كمنتصرين فحسب، الأمر الذي أفضى إلى التداعيات المتلاحقة وصولا إلى الموقف الشعبي المناهض للوحدة ولكل ما هو (شمالي).
لكن أي دور للحزب الاشتراكي في ما يحدث؟ ألم يدعم ويغذي الحراك الجنوبي على حساب مكانة ودور الحزب نفسه؟ بل أين الأحزاب الأخرى في الجنوب؟ وأين المثقفون؟ ولماذا سلم الكل لأصوات التطرف والكراهية، وإلى أين سيمضي الجميع أحزابا وحراكا وقد رهنوا بلادهم للاحتلال وللتدخلات الخارجية؟
لماذا أصبحت مصطلحات السيادة والاستقلال غريبة وممجوجة لدى الشارع الجنوبي الذي كان تاريخه القريب ناصعا بالنضال الوطني ضد أكبر قوة في زمنها؟
ومن المستفيد من حالة الارتهان، وتمييع الهوية، وتمدد المشاريع الصغرى؟
ثم وهو الأهم، ماذا يمكن أن يكسب هذا الفصيل أو ذاك من هذه الحرب ومن استمرار حالة الارتزاق هذه، وقد خسر الوطن؟

قد يعجبك ايضا