الفساد.. والإرادة السياسية (6)

أحمد يحيى الديلمي
الفساد في مجال القضاء (أ)
تبعاً للقاعدة الطبية المتدوالة ومفادها أن التشخيص الدقيق للعلة أقصر طريق لتحديد الدواء الكفيل بإزالة العلة.
أجد لزاماً ضرورة العودة إلى دهاليز الماضي القريب وتوضيح العثرات التي احاطت بسلك القضاء في اليمن وما رافقها من مؤامرات خارجية وداخلية سعت إلى إضعاف جهاز القضاء كأهم وسيلة لاستتباع النظام وإخضاعه لإرادة الخارج.. لن نطيل في هذا الجانب وسنقتصر على سرد محطات وشواهد حية تفضح الدور الخفي لكل طرف على حدة على النحو التالي:
دور الغرب:
نقصد بالغرب أمريكا ودول أوروبا والمنظمات الدولية.
بالعودة إلى محاضر اجتماعات اللجان الثنائية بين اليمن وعدد من الدول والهيئات الدولية ذات الصلة يمكن الوقوف على الدور المبكر للتآمر فقد احتوت على انتقادات كبيرة للقضاء اليمني واتهامه بالتخلف وعدم القدرة على توفير آليات رعاية وحماية حقوق الإنسان وحماية الحريات ، إضافة إلى انعدام مقومات بناء الدولة اليمنية الحديثة ممثلة في:
* قواعد بناء نظام الحكم والتدوال السلمي للسلطة.
* ضعف آليات التقاضي في الجانب التجاري وحماية الاستثمار.
* الدعوة إلى تطوير القضاء كأساس للاصلاح المالي والاداري وإدماج الاقتصاد الوطني في الاقتصاد العالمي ، مع الإشارة إلى أن بقاء الوضع كما هو عليه يحرم اليمن الكثير من القروض والمساعدات، إضافة إلى انتقاد اجراءات الضبط وتنفيذ الاحكام باعتبارها تعسفية وانتهاكاً صارخاً لابسط قواعد حقوق الانسان خاصة ما يتعلق بالأحكام الجزائية المتصلة بتنفيذ الحدود، إذ يعتبرها الغرب منافية لحقوق الإنسان ومدخلاً لإشاعة العاهات المستديمة خاصة حد السرقة.
ظلت الانتقادات التي أسلفت وغيرها تحتل محاضر الاجتماعات على المستوى الثنائي والدولي، ما دفع النظام القائم – آنذاك – للتسليم وطلب المساعدة للارتقاء بمهنة القضاء وإعادة النظر في القوانين الوطنية لتتواءم مع التشريعات الدولية ، هذا الإجراء أثار حفيظة لجنة تقنين أحكام الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب التأسيسي ورئيس المجلس القاضي عبد الكريم العرشي “رحمه الله”.
مع ذلك فإن دول الغرب لم تيأس ، بل لجأت الى طريقة أخرى تمثلت في رفع معنويات رأس النظام والاشادة بالتجارب الانتخابية ووصفها بالنموذج الديمقراطي المتميز.. في هذا الصدد بادرت أمريكا وبريطانيا إلى اختيار اليمن لاستضافه ما سُمي بمؤتمر الديمقراطيات الناشئة في دول العالم الثالث مع ما رافق العملية من زوبعة وضجة وتهويل إعلامي كبير ، حيث تجلى بشكل واضح القصد الخفي من خلال ورقة عمل مشتركة للأسف شارك فيها دكتور يمني من هواة الحداثة والتغريب القسري لكل شيء داخل اليمن وإن كان على حساب ثوابت العقيدة والأعراف والتقاليد.
بأسلوب ممنهج ومكرر دعت الورقة إلى تطوير التقاضي وتحديث آليات القضاء لا بقصد التطوير ذاته ، بل بقصد الافصاح عن النوايا الخفية المبيتة الهادفة إلى تدمير القيم والاخلاق وكافة الضوابط الثابتة في منهج العقيدة ذات الارتباط المباشر بالحدود وآليات الردع كما وردت في المنهج القويم ومنها:
* المطالبة بإلغاء عقوبة إعدام القاتل.
* المطالبة بإلغاء عقوبة قطع يد السارق.
* المطالبة بإلغاء عقوبة جلد الزانية والزاني.
* المساواة بين الرجل والمرأة في المواريث.
بدعوى أنها أساليب متخلفة تعمِّق التوحش وتنهتي إلى انتهاك كرامة الإنسان وتراكم العاهات المستديمة.
الدراسة سببت إحراجاً كبيراً للنظام، ما اضطر لجان التنظيم إلى عدم الإشارة إليها في البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر ، إلا أنها كانت قد احتلت مساحة بارزة في أذهان الحاضرين وانتقلت إلى بعض اروقة الدولة ، ومن خلالها تبنى معتنقو مبدأ الحداثة املاءات كثيرة ظل الغرب يوحي بها إليهم ، وهم يسهلون مهمة نقلها للنظام والضغط عليه للقبول بها ، إلى أن وجدت شبه استحسان بعد الانضمام الى ما سُمي بالحرب الدولية على الإرهاب ، إلا أن أحداً من هواة التغريب لم يجرؤ على الافصاح عن هذه الرغبات وظلت مكتومة في الصدور لعلم الكثيرين أنها ستشكل مدخلاً لثورة صحيحة ، فاليمنيون لديهم غيرة كبيرة على الإسلام وأحكامه ولا يمكن أن يفرطوا بها ، وهكذا وإلى الآن لا يزال الغرب يسعى إلى ترجمة هذه النوايا المبيتة ، إذ بدأ المهمة في تونس من خلال الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي ، لكنه لم يفلح وهيهات أن يصل إلى مبتغاه في هذا الجانب طالما والمسلمون متمسكون بعروة الدين التي لا انفصام لها.
الدور السعودي:
من حيث المبدأ النظام السعودي- عقب ما سُمي بالمصالحة الوطنية حول اليمن، إلى حديقة خلفية- لم يستثن أي مجال من الاستهداف والتآمر، إلا أنه اتبع أسلوباً ممنهجاً عندما اقتضى الامر استهداف القضاء والتدخل في شؤونه.
تشير العديد من المصادر إلى أن رغبة استهداف القضاء بشكل خاص تعاظمت بعد واقعة الطائف ، ومفادها أن الملك فيصل زار الطائف عام 1973م وتصدى لحل المشاكل العالقة بين العشائر ، إلا أن بعض القضايا تطلبت فتاوى شرعية فوعد بإرسال قاض شرعي ومفت من دار الافتاء ، لكن الإجماع على الرفض المطلق للفكرة من المتخاصمين اثار غضبه واستفزه اكثر عند سماع مبرر الرفض ، إذ أعلن المتخاصمون عدم الاطمئنان لفتاوى الحرم أو قضاة الرياض وأن علماء صعدة هم مرجعهم وآخرهم العلاَّمة المجدد مجد الدين المؤيدي قدَّس الله سره.
الموقف أغضب الملك الذي استشعر الخطر الكبير الذي يهدد مصادر الفتوى والمنظومة القضائية التي تحكم وتُفتي بخلفية وهابية في السعودية، فعاد إلى الرياض وكلف جهات الاختصاص بوضع خطة محكمة القصد منها إبطال فاعلية أي فتوى تصدر عن أي عالم من علماء الزيدية ، واستهداف القضاء اليمني ومدارس التعليم الديني “هجر العلم” بوسائل عديدة ، وبالفعل بدأت الخطة على النحو التالي:
إصدار فتاوى من مفتي السعودية آنذاك عبدالعزيز بن باز كفَّرت اتباع المذهب الزيدي واتهمتهم بالضلال والكفر والانحراف عن منهج الدين بطريقة غير مباشرة تمثلت في الفتوى التي أصدرها وجاء فيها ” أنه لا يجوز الزواج بالمرأة الزيدية إلا إذا جددت إسلامها ” وتدرج الاستهداف باسلوب ناعم أخذ طابع الدعم وتمثل في:
* تبني ترميم الجامع الكبير بصنعاء لإيقاف اهم معقل يتم من خلاله تخريج علماء الدين ومنهم القضاة المتمسكون بإجماع المذاهب في الكثير من القضايا كما هو حال اختيارات وزارة العدل التي أصدرها المرحوم الإمام يحيى حميد الدين وتضمنت (15) مسألة من المسائل التي تهم القضاء بكل شؤونه ، إذ جعلها مشتملة على كل ما أجمع عليه المسلمون، وحتى الآن لم يتمكن أحد من التأثير عليها أو مجرد انتقادها ، لأنها عبَّرت عن رؤية جامعة، ورغم المحاولات الكثيرة في هذا الجانب إلا أنها باءت بالفشل.
* الاستهداف المباشر للزيدية بإنشاء دار الحديث بدماج في محافظة صعدة.
* إنشاء مبنى المعهد العالي للقضاء في صنعاء بقصد الاستحواذ عليه والتحكم في مناهجه.
* إنشاء عدد من المحاكم في الأمانة.
* إرسال خبراء من مصر والسودان بحُجَّة تحديث القوانين القضائية.
وكان الهدف الخفي من كل ذلك التشكيك في فاعلية التشريعات الموجودة بدعوى أنها متخلفة لا تواكب التطوارات التي حدثت في مجال القضاء على مستوى العالم.
في هذا الصدد أستعين بما ورد على لسان الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق- كونه شاهد حال اثناء فترة انتدابه للتدريس في جامعة صنعاء عندما سألته عن سبب تغيير موقف خبير مصري تبنى أفكاراً تعارضت مع ما أفصح عنه في وقت سابق أثناء وجود القوات المصرية في اليمن ، حيث أشاد بالتشريعات القضائية في اليمن وأثنى بشكل خاص على اختيارات الإمام يحيى التي سميت باختيارات وزارة العدل بعد الثورة ، فأجاب الدكتور جمعة وهو يضحك: الأمر واضح.. في الفترة الماضية كان مستقلاً يُعبِّر عن وجهة نظره أما اليوم فهو مرتهن لمن اوفده ويمده بالمال.
كان هذا الموقف بالفعل هو موقف عدد ممن أوفدتهم السعودية وتولت تمويلهم، مع أن هذا الشخص وغيره كانوا قد أصدروا مواقف إيجابية في وقت سابق ، وقالوا نعبر عن قناعاتنا الذاتية كلنا رأينا بكل صراحة أن التشريعات القضائية اليمنية تجسد منهج العقيدة وما انعقد عليه اجماع الأمة ، خاصة الاختيارات التي وضعها الإمام يحيى حميد الدين – رحمه الله – فهي أكثر دقة وأهم مصدر للشريعة ، وذلك ما أثار قلق وغضب الجانب السعودي ، وهو ما دفع صاحبنا إلى إعلان رأي مخالف حرصا على استمرار الراتب الكبير والمزايا الاخرى.
ما هي الاختيارات ؟!!
لتعميم الفائدة ولأن الكثيرين يجهلون موضوع الاختيارات أقدم هذه اللمحة:
من أهم الشروط التي اقتضى مذهب الإمام زيد عليه السلام توفرها في الإمام (أن يكون أعلم الناس وأن يبلغ درجة الاجتهاد) ومن الآليات التي تؤكد توفر هذا الشرط أن يقوم الإمام بعد حصوله على البيعة بوضع لائحة المرتكزات الفقهية للتقاضي الكفيلة بحل المشكلات الصعبة والمعقدة، والتركيز على كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية لتسهيل المهام أمام القضاة وضمان إشاعة العدل والانصاف.. ومن النماذج التي بين أيدينا في هذا الجانب الآتي:
* “صفوة الاختيارات في أصول الفقه” لالإمام المنصور عبدالله بن حمزة عليه السلام.
* “الاختيارات المؤيدية” للإمام يحيى بن حمزة عليه السلام.. والمؤيدية مشتقة من لقب الإمام فقد لقب بالمؤيد.
* “صراط العارفين في اختيارات أمير المؤمنين” للإمام يحيى حميد الدين عليه السلام ، الاسم عنون به العلاَّمة المؤرخ عبدالله الشماحي رحمه الله الكتيب الذي جمع فيه الاختيارات الصادرة عن الإمام.
تميزت اجتهادات الإمام يحيى بالشمولية والانفتاح على بقية المذاهب في الخمس عشرة مسألة لاختياراته ، لذلك نالت الإعجاب وحصلت على إشادة عدد كبير من العلماء داخل وخارج اليمن، وكان آخرهم دكاترة وعلماء الأزهر الشريف الذين وفدوا إلى اليمن كخبراء في هذا الجانب.
قال الأستاذ فاروق عبد الرحمن أحد علماء الازهر- ( أهم ما ميز اختيارات وزارة العدل اليمنية أن الإمام المجتهد لم يتعصب للزيدية التي يدين بها ، لكنه مال إلى الاجماع، وكان كلما اقتضى الأمر يميل إلى الدليل عند الشافعية أو المذاهب الثلاثة الأخرى ، إذا وجد أن الموقف يخدم المصلحلة العليا للامة، فأورد كل اختيار حسن وأكثر قدرة على تذليل الصعاب والتعقيدات أمام القاضي فدل التوجه على إحاطة الإمام بكافة المذاهب السُنيِّة والشيعية )
من الشهادة يتجلى بشكل واضح القصد الحقيقي للإمام المتعلق بتوحيد البلاد وجمع كلمة الأمة استناداً إلى قاعدة التآلف والتسامح بين اتباع المذهبين الأكثر حضوراً في اليمن وهما الزيدية والشافعية ، لذلك ركز كثيراً على فقة المعاملات والأحوال الشخصية، وكان همه الأكبر الحد من نفوذ المشائخ وأصحاب الوجاهات الاجتماعية بالتقليل من ارتهان المتخاصمين للأحكام العرفية وتوفير المقومات الأساسية لبسط سلطات الدولة المركزية والتصدي للفوضى والاختلالات الأمنية والاضطرابات السياسية وتجاوز حالات الشكاوى والتذمر ، إضافة إلى الحد من سطوة من كانوا مجرد أدوات للأتراك – كما قال الدكتور علي جمعة – هذه المرتكزات كانت أكبر مصدر للقلق لدى الجانب الآخر ، وهذا ما دفع ذلك الزميل وآخرين إلى تغيير مواقفهم لإرضاء الجانب السعودي و”ضمان أطول مدة للانتداب والحصول على مرتبات مغرية ” انتهى كلام الدكتور جمعة.
انطلاقا مما تقدم ضاعفت السعودية استهدافها القضاء في اليمن.. من الناحية النظرية غلَّفت السعودية كل ما تقوم به ببرامج الدعم والمساعدات المقدمة لليمن وإشراك الجانب اليمني في شرعنة الخطوات من خلال إقرار مجلس التنسيق المشترك، وفي ذات الوقت تمكنت السعودية من استقطاب عدد كبير من اليمنين للقيام بالمهمة وقد توفرت البيئة الخصبة للتدخل بعد أن توغلت حركة الإخوان المسلمين في الواقع الحياتي واستقدام اتباع الوهابية من خريجي الجامعات والمعاهد السعودية لتمكينهم من الالتحاق بسلك القضاء والتعليم بما هم عليه من الانغلاق والغلو والتطرف ، تبعاً لذلك زاد عدد أفراد الطابور الخامس في الداخل اليمني وكان الهم الأكبر لهذا الطابور هو هدم الموروث الوطني المتراكم والقضاء على الهوية الوطنية الثابتة في بطون الكتب وأذهان كبار العلماء في مجال القضاء بدعوى أنه رجعي متخلف، مع أنه كان مستنداً إلى أصول المنهج القويم وقائماً على أساس الشريعة السمحاء.
كان أول انكشاف أخلاقي لحركة الإخوان المسلمين أنها تبنت الخطة الوهابية بأبعادها القذرة وأسلوبها الحقير لاستهداف اتباع المذهبين الزيدي والشافعي بدعوى الانحراف والضلال والرافضة بالنسبة للزيود ، هذه التهمة الأخيرة جعلت سهام الوحشية والحقد والعداء الصارخ توجه صوب هذا المذهب والسعي إلى محوه من الوجود من خلال التشكيك في أصول وقواعد المذهب مقابل تأجيل مواجهة أتباع المذاهب الأخرى إلى مرحلة لاحقة.
وإن شاء الله نلتقي في الحلقة القادمة..

قد يعجبك ايضا