تسييس الحج وتغييب الفريضة

أ.حمدي الرازحي
منذ عهد الخليل إبراهيم عليه السلام وتلك الأرض القاحلة الموغلة في أعماق الصحراء تزدهر يوماً بعد يوم وتستبدل الوحشة الكامنة في ثنايا شعابها ووديانها أنساً وأمناً واستقراراً الأمر الذي فتح تلك الأرض خصوصية فريدة تميزت بها عن غيرها من البلدان.
وإذا كانت الشرائع السماوية قد منحت المكان قداسة من نوع ما إلّا أن تلك القداسة لا تنسحب بحال من الأحوال على الأشخاص أفراداً أو جماعات لأن الثابت فقط هو المؤهل الوحيد لنيل تلك السمة الخالدة بينما الذوات النامية وخصوصاً البشر منها والذين يعرفون بديناميكيتهم الحيوية وتفاعلهم المستمر مع عوامل التأثير والمتغيرات لا تستطيع الثبات على حالة واحدة وخصوصاً حالة الطهر المولَّد للقداسة لأن تقلبات المزاج وتعدد الأهواء قد تنحرف بالفرد عن مسار منظومة القيم والمبادئ لتصنع للفرد مسارات مغايرة لا تتصل بالقيمة من قريب أو بعيد، وبذلك لم تكن القداسة في يوم من الأيام من نصيب الأفراد سوى من اختصهم الله بفضله وما أندرهم.
والحج كفريضة تعبدية نادت بها شرائع السماء ودعا إليها الإسلام ليختتم بها منظومة أركانه الخمسة من أبرز الحقوق المكفولة لجميع المسلمين في حال تحقق شرط الاستطاعة، ولا يجوز في عرف الإسلام تغييب هذه الفريضة أو عرقلة مسارها ومنع تحققها، وإذا كانت شواهد التاريخ الإسلامي قد أثبتت أن الأنظمة السياسية المتعاقبة على زمام الحكم في منطقة الحرم المكي قد أسهمت بشكل أو بآخر في عرقلة هذه الفريضة ومنع (الناس) من الحج والطواف بالبيت الحرام ابتداءً من (قريش) الأولى في عهدها الطاغوتي المستبد ومروراً بالعهد الأموي في زمن (الحجاج الثقفي) فإن شواهد العصر الحديث المتخم بمقولات الحرية والتعددية والديموقراطية والاعتراف بالآخر وغيرها من المصطلحات الرنّانة والمفاهيم الجوفاء أكثر مأساوية وأشد استخفافاً بتعاليم السماء وأعراف البشر.
وإذا كانت (قريش الأولى) قد استطاعت أن تفرض جبروتها وتنتصر لغطرستها بمنع المسلمين الأوائل من الحج والطواف بالبيت الحرام إلّا أن إيمانها بأعراف العرب وأخلاقهم قد خفف من وطأة ذلك التصرف الأرعن من خلال بنود معاهدة صلح الحديبية وما تتضمنه من اعتراف بحق الآخر في ممارسة طقوسه وشعائره ولو بعد حين، وهو الأمر الذي تنكرت له (قريش) (الثانية) ممثلة بإمبراطورية البعير (آل سعود) والذين لم يتنكروا فحسب لأعراف العرب وأخلاقهم وشرائع السماء وطقوسها التعبدية بل تجاوزوا كل ذلك إلى التنكر لكل القيم الإنسانية بسفك الدماء الطاهرة وإزهاق الأرواح المتوشحة بالبياض في ساحات الحرم المكي تحت ذرائع واهية ومبررات لا يستسيغها العقل.
ومنذ أن تنكرت (قريش) (الثانية) لقيم الدين والأعراف توجهت إلى صبغ طقوس الحج بألوان السياسة الباهتة لتتخذ من الحج ورقة تضغط بها على كل من يغرد خارج سربها.
والتاريخ متخم بالصور والشواهد التي تثبت أن السعودية تقوم بتوظيف الحج لتحقيق أغراض سياسية وتسويق افكارها السوداء المعادية لله والأرض والإنسان من خلال تحويل خطبة منابر الحرمين المكي والمدني إلى قناة إعلامية تتولى مهمة تلميع النظام الملكي الحاكم وتشويه ملامح الآخرين فضلاً عن نشر الدعاة وتصدير الفكر التكفيري إلى كل بقاع العالم.
إن للحج وظيفة سياسية تتعالى بأطروحاتها وأهدافها على تلك الأطروحات الضيقة التي يقدمه بها آل سعود فالبعد السياسي الجوهري لفريضة الحج يتمثل في إقامة الأمة وبناء المظلومة الاجتماعية المتعالية على فوارق اللغة واللون والجنس والقومية لتأسس بذلك منظومة بشرية أممية واحدة ومتماسكة ذات منهجية دستورية منبثقة من وحي الخطاب القرآني وليس مجرد رؤية آحادية فردية تنادي باسم الملك وتتعبّد في محراب نفطه، وإن قتل وإن ظلم.

قد يعجبك ايضا