نأكل مما نزرع.. ونلبس مما نصنع

م. وليد أحمد الحدي *
سعدت كثيراً وأنا أشاهد أكياس قمح من إنتاج المؤسسة العامة لتنمية وانتاج الحبوب وهي تحمل شعار (نأكل مما نزرع)، لبرهة من الوقت عادت بي الذاكرة الى ذلك الشعار الجميل الذي أطلقه الأديب جبران خليل جبران في إحدى تجلياته “ويلٌ لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر”، لقد كان لذلك الشعار الذي دشنه الزعيم الراحل الماهاتما غاندي في ثورته ضد المستعمر البريطاني، والذي كان يحمل في ثناياه دعوة صادقة للإنتاج والعمل ومقاطعة البضائع البريطانية الفضل الأول في طرد الاستعمار البريطاني من الأراضي الهندية، وكان له الفضل في ارتقاء الهند الى مصاف الدول العظمى التي تفوقت على كثير من نظيراتها حول العالم في مجال الصناعة والزراعة والخدمات، فلا غرابة اليوم الهند باتت تمتلك عاشر أقوى جيش في العالم، ودخلت مجال المريخ قبل سنة بمركبة فضائية هندية 100 %، وأصبح لديها خمسة آلاف قنبلة نووية، وهي من اخترع الهوت ميل وال USB، ومنها أكثر رجال العالم ثراء، فرؤساء شركات قوقل ومايكروسوفت وماستر كارد جميعهم هنود.
ولست بحاجة للقول إن العودة الى الزراعة والتوجه نحو المزيد من الانتاج الصناعي والخدمي والاعتماد على الذات وتفعيل سلاح المقاطعة للبضائع الأمريكية والسعودية والاماراتية التي تسهم بشكل أو بآخر في تدمير الاقتصاد هو نافذة الأمل التي من خلالها يمكن تقليص مساحة الضرر التي لحقت بالاقتصاد الوطني جراء العدوان والحصار منذ أربع سنوات ونيف،سيما إذا علمنا أن تلك الأموال التي تذهب لشراء تلك البضائع تعود الينا في نهاية المطاف على شكل قنابل وصواريخ تستهدف الأرواح والمقدرات والمنازل والمصانع، وتستنزف العملة الصعبة التي تؤثر سلباً على استقرار العملة الوطنية، وتعمل على اختلال ميزان المدفوعات والتضخم في أسعار السلع والمنتجات الضرورية، ناهيك عن أن الاقبال على شراء تلك المنتجات يؤدي بشكل فعال الى تدمير واستهداف الصناعات الوطنية من خلال الدفع بمنتجاتنا المحلية في منافسة غير متكافئة، وبالتالي اضعافها والقضاء عليها ما سيؤدي الى ارتفاع نسبة البطالة والفقر وانعدام الخدمات.
لا يخفى على العالم ما يشهده وطننا الجريح من استهداف صاروخي ممنهج للمصانع اليمنية التي يعتمد غالبية الشعب اليمني على منتجاتها نظراً لأسعارها المناسبة ولتوفر الحد الأدنى من الجودة فيها مقارنة بأسعارها، الأمر الذي يحتم علينا مواجهة ذلك العدوان الاقتصادي الذي يفوق بشاعة العدوان العسكري بالإنتاج الزراعي والصناعي وتفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية لمنتجات وبضائع دول العدوان خاصة إذا ما علمنا أن الهدف الرئيس من استهداف تلك المصانع الوطنية التي تغطي حاجة السوق المحلية وتحويل البلد الى سوق استهلاكية للمنتجات السعودية والاماراتية والمهربات القادمة من جبل علي في دبي من سجائر ومواد ضارة بالصحة غير مطابقة للمواصفات والمقاييس، ولعل الاستهداف الذي شهدناه لمصانع الحليب والألبان في محافظة الحُديدة ومصانع الاسمنت في البرح وعمران وكذلك مصانع البفك والتسالي في محافظة صنعاء خير دليل على ذلك، الأمر الذي يستدعي البحث وايجاد البدائل لبعض المنتجات المستوردة عن طريق الاعتماد مؤقتا ًعلى منتجات بديلة لدول لا علاقة لها بذلك العدوان.
قد يدعي البعض أنه لا جدوى من تلك المقاطعة سيما في ظل انعدام البدائل المتاحة، لكن إذا ما علمنا أن التاريخ الإنساني المعاصر قد حفِل بصور من ممارسة المقاطعة الاقتصادية في وجه الخصوم، كسلاح للردع أو كوسيلة للضغط فان ذلك سيدفعنا بالتأكيد على استلهام تلك التجارب التي أتت أكلها ولو بعد حين، من ضمن تلك الصور على سبيل المثال لا الحصر :
1 – سياسة المقاطعة الاقتصادية التي انتهجها الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي كسلاح في وجه الاحتلال البريطاني للهند، حيث دعا الى احراق البضائع القادمة من بريطانيا في مومباي ضمن سلسلة من أعمال الاحتجاج على سلطات الاحتلال، كما حث مواطنيه على صنع ملابسهم بأيديهم والاستعانة في ذلك بمغازل يدوية للاستعاضة عن الملابس المستوردة من مصانع بريطانيا وأعطى المثال بنفسه وكان قدوة لهم.
2 – امتناع العديد من المستهلكين حول العالم عن استهلاك البضائع القادمة من جنوب افريقيا احتجاجاً على سياسة الفصل العنصري، وامتدت مقاطعتهم من ستينيات القرن الماضي حتى أوائل التسعينيات.
3 – امتنع الفلاحون في ايرلندا – إبان حركة تحريرها من الاحتلال البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر – عن التعامل مع أصحاب الإقطاعات الزراعية الإنجليز ووكلائهم المحليين.
4 – دعت المنظمات الفلسطينية على مدار عقود من الزمن الى حملات دولية لمقاطعة البضائع الاسرائيلية، ومنتجات المستوطنات والشركات العالمية الداعمة لاسرائيل، وتعتبر الحركة المعروفة اختصاراً بـ “بي دي أس” (والتي تعني مقاطعة، سحب استثمار، وعقوبات )من أهم التنظيمات الشعبية التي تعمل في هذا المجال.
هذه أمثلة بسيطة لقرارات شجاعة أقدمت عليها قيادات وشعوب وحركات توفرت لديها إرادة ونظرة استراتيجية ثاقبة شكلت نقطة تحول في تاريخها، لأنها تعلم علم اليقين أن الحروب ضد الأعداء لا تنحصر في الدبابة والمدفع والمواجهة العسكرية، وأن تأثير الحروب الاقتصادية يفوق أضعاف المرات تأثير الحروب العسكرية، لذلك آثرت مصالحها القومية على حساب المصالح الفردية ما دفعها الى الإنتاج والإبداع حتى بلغت مرحلة الاكتفاء الذاتي بل وتعدتها الى التصدير، وحولت نقاط الضعف لديها الى نقاط قوة استطاعت من خلالها أن تتحصن اقتصادياً ضد خصومها.
الدور الوطني والمشكور الذي تقوم به اليوم بعض المؤسسات الانتاجية مثل المؤسسة العامة لتنمية وانتاج الحبوب في محافظة الجوف والمتمثل بزراعة القمح، والجهد الشعبي الرائع الذي قام به أهالي منطقة شرقي حراز بجهود شخصية تمثل بقلع أشجار القات واستبدالها بأشجار البن، وبعض الأنشطة التصديرية لمؤسسات خاصة بالمنتجات اليمنية مثل البن والرمان والمانجو، أعمال يستوجب تشجيعها وتنميتها والتعريف بها والبناء عليها من قبل الأجهزة المعنية، كما يجب تنظيم حملات اعلامية وتوعوية بالتنسيق ما بين الجهات ذات العلاقة لرفع مستوى الوعي الشعبي بضرورة مقاطعة البضائع السعودية والاماراتية التي لا تقل خطراً عن البضائع الأمريكية والاسرائيلية لما لها من أضرار تفتك بالاقتصاد الوطني وتنافس المنتج المحلي.
* رئيس الجمعية اليمنية لحماية
وتشجيع الانتاج المحلي

قد يعجبك ايضا