ضمن سلسلة (البطولة اليمنية في زمن الطوفان)
السلسلة الروائية التي توثق صفحات البطولة اليمنية في زمن الطوفان .
***
الساعة السادسة مساء الأحد الثالث من ديسمبر 2023 م .
في قرية نائية شاهقة أعلى جبال مديرية بكيل المير بمحافظة حجة كان الليل يتسلل ببطء. الضباب يلامس أطراف البيوت الحجرية، والريح تمر كأنها تنقل أحداث بحر لا تقال مرة واحدة ..
***
بأحد بيوت القرية، اجتمعت أسرة صغيرة حول مذياع قديم.
الأب جلس قريبًا من النافذة، مسبحته تدور ببطء بين أصابعه.
الأم وضعت إبريق الشاي جانباً واقتربت دون أن تتكلم.
طفلان صغيران جلسا على الأرض ينظران إلى وجهي والديهما أكثر مما يستمعان للكلمات.
العميد يحيى سريع قرأ البيان بصوته وحضوره اللافتان :
بيان للقوات المسلحة اليمنية يؤكد استهداف سفينتين إسرائيليتين في باب المندب، سفينة يونِتي إكسبلورر وسفينة نمبر ناين .
ساد صمت قصير
قالت الأم بصوت منخفض :
– تظن أنهم كانوا في البحر وقتها؟
لم يلتفت الأب، ظل ينظر إلى الجبل المقابل وقال:
– الله أعلم… لكن قلب الأم لا يخطئ .
اقترب أحد الطفلين وسأل ببراءة:
أبي… أخي الكبير هناك؟
مسح الأب على رأسه وقال:
– هو حيث يجب أن يكون الرجال .
تدخل الطفل الآخر :
– هل يخاف ؟
ابتسمت الأم ابتسامة خفيفة وقالت بحزم ويقين :
– من هو مع الله لا يخاف .
عاد الصمت.
خارج البيت، حرّك النسيم شجرة سدر يابسة فسقطت ورقة واحدة . .
***
العلوم العسكرية ليست أرقاماً جامدة، بل دراسة للسلوك، للإرادة، لفن الاشتباك حين يصبح العقل سلاحاً يسبق النار. هي فهم للحرب بوصفها صراع عقول قبل أن تكون صراع عتاد.
دعونا نعود للوراء عدة عقود، إلى يوم الثلاثاء 6 يونيو 1944. يوم شهد العالم واحدة من أشهر عمليات الخداع العسكري في التاريخ، عملية الإنزال في نورماندي، أو ما عُرف بعملية أوفرلورد. هناك انتصر الحلفاء بالحيلة، بإرباك الخصم، بجعله ينظر في الاتجاه الخطأ.
***
في الأعراف العسكرية المعروفة، تُعد القوات الأمريكية والإسرائيلية اليوم من أكبر القوى البحرية عتاداً ونفوذاً .
بعد سلسلة الهجمات اليمنية على السفن الإسرائيلية، وصلت المدمرة الأمريكية كارني إلى البحر الأحمر.. حضور ثقيل، هدفه إظهار الهيبة، حماية السفن، تثبيت معادلة قديمة.
***
فجر الثالث من ديسمبر، وصلت إلى القيادة اليمنية معلومات استخباراتية دقيقة تؤكد مرور سفينتين إسرائيليتين، مدعومتين بوجود البارجة كارني.
هنا بدأ السؤال الحقيقي: كيف يتم الاستهداف؟
***
في لعبة الشطرنج، هناك فخ شهير يعرف بـ فخ لاسكر. نقلة تبدو عادية، تضحية محسوبة، لكنها تفتح الطريق لضربة لا تُرى إلا حين تقع. لا يفهمها الخصم إلا متأخراً .
بحسب التصريحات الأمريكية، كانت المدمرة كارني في وضعية الاستعداد القصوى، وأعلنت إسقاط صاروخ باليستي وطائرتين مسيرتين.
ثم جاءت التصريحات الإسرائيلية، معترفة باستهداف السفينتين بشكل مباشر، وبأضرار فادحة.
وقف العالم مدهوشاً
القيادة البحرية اليمنية كانت تعرف موقع كارني، تعرف ثقلها.
لهذا تعاملت معها بالتضليل.
ضغط متعمد، إشغال محسوب.
وفي اللحظة نفسها، من أماكن غير متوقعة، جاءت الضربات الحيدرية، استهدفت السفينتين الإسرائيليتين مباشرة، كما نقلت هيئة الإذاعة الإسرائيلية..
***
في تلك اللحظة، لم يكن البحر مجرد ماء.
كان ساحة اختبار . .
وكان الجبل البعيد شاهداً صامتاً
وفي بكيل المير، عاد ذلك المشهد إلى البيت نفسه وبنفس توقيت المشهد.
الأكواب بردت.
الأب فرش سجادته وصلى ركعتين، ثم جلس طويلًا.
قالت الأم وهي ترتب الغرفة :
– اطمأن قلبي اليوم.
قال الأب:
– إذا كان بينهم، فالله معهم.
سأل أحد الطفلين وهو ينعس :
– متى يعود؟
أجابت الأم.:
– يعود حين يكتب الله عودته.
قال الأب.:
– وإن تأخر… فالأثر يبقى.
نام الطفلان، وعلى وجهيهما سكينة هادئة.
خارج البيت، كان الجبل ثابتًا كما هو.
والبحر بعيداً يؤدي دوره، والسماء فوق الجميع شاهدة على الانتصارات اليمنية .
نجح الاستهداف.
سقطت الهيبة، للمرة الأولى، معاً
وسُمع صوت جديد، هادئ، ثابت،
كأنه صوت ابن بكيل المير المقاتل ضمن القوات الخاصة البحرية
يقول فقط :
” كش ملك ”
انتهى . .
يتبع الحلقة الخامسة …
