من النكسة إلى الطوفان.. غزة المحرقة والبوصلة

د. محمد إبراهيم المدهون

ما بين الخامس من حزيران 1967، والسابع من 2023، مسافة زمنية تتجاوز نصف قرن، لكنّها تختصر صراعًا لا يزال في ذروته، بين مشروعٍ استعماريّ صهيونيّ، وأمّةٍ تتلمّس دروبَ الكرامة والمقاومة.
من نكسةٍ زلزلت العالم العربي، إلى طوفانٍ أعاد رسم معادلات القوة، ظلّت فلسطين قلب المعركة، وغزّة أيقونة هذا الصمود المتجدّد.
في هذا المقال، نقرأ التحوّل من الهزيمة إلى التحدي، من التراجع إلى المبادرة، ونُسلّط الضوء على المفارقات الحادّة التي تختصر المسافة بين “النكسة” و”الطوفان”، حيث تحترق غزة تحت وطأة المحرقة، لكنها تبقى بوصلة لا تضل.
يمثّل صمود غزة حالة استثنائية في ميزان المواجهة، إذ أثبتت للعالم أن الإرادة الشعبية والمقاومة العقائدية تستطيع أن تُربك أعتى الجيوش، وأن تُفشل منظومات الاحتلال العسكرية والاستخباراتية، بل وتُحطم صورته التي لطالما حاول تصديرها بأنه “الجيش الذي لا يُقهر”.
وهنا تبرز مفارقة عميقة ومؤلمة في آن: فبينما انهزمت جيوش عربية مجتمعة في نكسة حزيران خلال ستة أيام فقط، رغم ما كانت تملكه من عُدة وعدد، فإن غزة الصغيرة المحاصَرة، التي لا تملك جيشًا نظاميًا، تصمد لأكثر من 600 يوم في وجه آلة حربية صهيونية لا تعرف الرحمة، مدفوعةً بالإيمان والعقيدة لا بالتحالفات والعتاد. هذه المفارقة التاريخية تُعيد تعريف مفهوم النصر والهزيمة، وتُثبت أن الكرامة والحرية لا تُقاس بمساحة الأرض ولا بعدد الطائرات، بل بصدق العقيدة ووضوح البوصلة.
في الخامس من يونيو 1967، وقعت نكسة حزيران التي مثّلت ضربة قاصمة للعالم العربي، حيث احتلت “إسرائيل” القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان. لم تكن الهزيمة عسكرية فقط، بل سياسية وثقافية ونفسية، فتحت الطريق أمام مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
أدّت النكسة إلى تراجع الحركات التحررية وصعود اتجاهات الواقعية السياسية والتسويات، مما أعطى الشرعية التدريجية للوجود الصهيوني في المنطقة. تحوّلت “إسرائيل” إلى أداة وظيفية للمشروع الغربي، تلعب دور الحارس لمصالحه في المنطقة.
غير أن تداعيات النكسة لم تُسكت صوت الجماهير العربية والفلسطينية، بل دفعتها نحو بناء بدائل نضالية. فقد تصاعدت العمليات الفدائية الفلسطينية، وبرزت منظمة التحرير الفلسطينية وقوى اليسار كحامل سياسي مقاوم. لكن رغم ذلك، بقيت التحديات قائمة نتيجة الاحتواء العربي الرسمي للمقاومة ومحاولات تفكيك المخيمات وشيطنة الكفاح المسلح.
ثم جاءت اتفاقيات أوسلو لتُفرغ المشروع الوطني الفلسطيني من مضمونه، عبر تحويل السلطة الفلسطينية إلى أداة لضبط الشعب الفلسطيني، بينما تستمر “إسرائيل” في مشروعها الاستيطاني والتهويدي.
في المقابل، بقيت غزة والضفة تحتفظان بنبض المقاومة، حيث تشكّلت البيئة التحتية للمواجهة الحقيقية. تطوّرت قوى المقاومة في غزة رغم الحصار والعدوان، وتحوّلت إلى مركز ثقل في المشروع التحرري الفلسطيني.
وفي السابع من أكتوبر 2023، أطلقت كتائب القسام عملية “طوفان الأقصى”، التي قلبت الطاولة على كل المشاريع. لم تكن العملية مجرد اختراق أمني أو هجوم عسكري، بل تحوّل استراتيجي في قواعد الصراع. بذلك أعادت المقاومة الاعتبار إلى فكرة الكفاح التحرري الشامل، وفضحت هشاشة المشروع الصهيوني من الداخل. كما كشفت زيف التطبيع والانبطاح العربي، وأثبتت أن الشعوب لا تزال تحتفظ بمخزون نضالي كبير.
اليوم، يبدو أن المعادلة تتغيّر: لم تعد “إسرائيل” قادرة على فرض شروطها دون ثمن. غزة تقاتل رغم المجازر والمحرقة المستمرة، الضفة تنذر بالاشتعال رغم القبضة الأمنية، الداخل الفلسطيني يتململ، والخارج يعيد النظر في رهاناته.
لقد شكّل “طوفان الأقصى” استكمالًا لمسار بدأ منذ النكسة، مسار عنوانه: التحرر لا التعايش، المقاومة لا التسوية، الشعب لا الزعيم.
وفي لحظة انكسار حزيران، تنهض غزة لتكتب فصلًا جديدًا من العنفوان حد الطوفان.

رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات

قد يعجبك ايضا