الثورة / يحيى الربيعي
في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر والوحشي على قطاع غزة، الذي يتسم بجرائم حرب وإبادة جماعية موثقة، مخلفاً كارثة إنسانية هائلة من حيث أعداد الضحايا، والتجويع الممنهج، والنزوح القسري الواسع النطاق.. في خضم هذا المشهد المأساوي الذي يلفه أيضاً صمت عالمي مخزٍ ويُلطخه عار التخاذل والاستسلام والتواطؤ العربي، يبرز الموقف اليمني كمسار مغاير واستثنائي، ليشق طريقه بصلابة في دعم وإسناد القضية الفلسطينية والمقاومة في غزة.
سياق العدوان الممنهج في خطة “عربات جدعون”
لم يعد الوضع في قطاع غزة مسرح إحصاءات اعتيادية، بل يمثل مستوى غير مسبوق من الدمار والمعاناة، حيث تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين ما لم يعد من السائد ولا من المألوف توصيفه بالإحصاءات، لأنه في الواقع المؤلم صار حصاداً لـ “سياسة متعمدة” ممنهجة وتهدف إلى “الإبادة الجماعية” وفق وصف خبراء الأمم المتحدة، بما في ذلك حصيلة مروعة من الأطفال. لقد تجاوزت الأرقام الواردة 53,272 شهيداً و120,673 إصابة بين 7 أكتوبر 2023م و16 مايو 2025م، وارتفاع حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس 2025م إلى 3,131 شهيدًا، و8,632 إصابة، بالإضافة إلى الضحايا الذين لا يزالون تحت الركام وفي الطرقات، لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
يشمل العدوان حصاراً متعمداً للمساعدات الإنسانية، الذي استمر لأكثر من شهرين، مما أدى إلى توقف شبه كامل للجهود الإنسانية واستخدام التجويع “كتكتيك للضغط على المقاومة”، وهو ما يُعد انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، كما أدى العدوان إلى نزوح 90 % من سكان غزة (2.1 مليون شخص)، يعيشون ظروفاً مأساوية ويفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة.
ينفذ العدو الإسرائيلي، بدعم أمريكي واضح، خطة “عربات جدعون” الهادفة إلى إعادة تقسيم غزة إلى معازل صغيرة، وتجويع السكان، وارتكاب المجازر المكثفة لمنع دخول الغذاء والدواء، تمهيداً لتهجير الفلسطينيين قسرياً خارج القطاع، ويمثل هذا المخطط الديمغرافي الكبير استمراراً لعقيدة صهيونية تاريخية من التجريد والتهجير التي استمرت لأكثر من 77 عاماً.
الدمار الهائل للبنية التحتية، بما في ذلك تضرر 95.4 % من المدارس، يُنظر إليه على أنه استهداف لمستقبل المجتمع الغزي ونسيجه الاجتماعي، ويتناسب مع رواية العقاب الجماعي، تصنيف 70% من غزة كمناطق عسكرية أو نزوح يحد بشدة من وصول المدنيين إلى سبل عيشهم ويسهل السيطرة والتهجير القسري، مؤكداً أن الهدف يتجاوز الأغراض العسكرية البحتة إلى تغيير ديمغرافي ممنهج.
دعم لا يتزعزع وأجندات خفية
يؤكد واقع حال التفاعلات التي تمر بها المنطقة، على الدور الأمريكي “المفضوح” في العدوان، حيث قدمت واشنطن الأسلحة الفتاكة (بما في ذلك قنابل ثقيلة تم بواسطتها استهداف خيام النازحين)، وضغطت على “الكيان بألا يوقف حمام الدم”، وتُحلل زيارة ترامب إلى المنطقة كجزء من محاولة “إعادة التموضع الأمريكي” و”استعادة الهيبة المفقودة” بعد “هزيمة العدوان الأمريكي في اليمن”، والهدف الأساسي للزيارة يتركز على الجانب الاقتصادي و”حلب دول الخليج تريليونات الدولارات” تحت مسمى الاستثمارات والصفقات العسكرية الضخمة، يُنظر إلى هذه الأموال على أنها تصب في “الخانة الأمريكية” بينما تحصل الدول الخليجية على “وهم الركون إلى القوة العظمى والرهان عليها في حماية دولها وعروشها”، كما تربط الزيارة بمحاولة تأمين الكيان الإسرائيلي وتهيئة الأرضية لتحالف اقتصادي أمني جديد يخدم كيان الاحتلال ويعادي حركات التحرر في المنطقة، كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل البيئة الإقليمية.
عار يتجلى في الاستقبالات والصفقات
ترسم تفاعلات الواقع العربي صورة قاتمة للموقف العربي، واصفة إياه بـ “الصمت العربي والإسلامي الذي مع الوقت يبدو أنه يتعود يوميات الجرائم الصهيونية”، و”عار التخاذل والاستسلام والتواطؤ”، وتشير إلى أن الأنظمة العربية التزمت بتعليمات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالصمت وعدم اتخاذ أي مواقف داعمة لغزة في بداية العدوان.
وتجسَّد هذا التخاذل في الاستقبال الحافل والمديح المفرط الذي لقيه ترامب في الرياض والدوحة وأبو ظبي، رغم دوره المباشر في دعم العدوان على غزة وفي سفك دماء اليمنيين، تم توقيع صفقات اقتصادية وعسكرية ضخمة (600 مليار دولار استثمارات و142 مليار دولار أسلحة مع السعودية، 200 مليار دولار طائرات مع قطر، استثمارات تزيد عن تريليون دولار مع الإمارات)، يُنظر إليها على أنها “حلب” لأموال العرب وملء لخزائن أمريكا، والتي ستُستخدم جزئياً في تسليح الكيان الإسرائيلي لضمان تفوقها.
ترفض تفاعلات الأحداث على الواقع في غزة بشدة وصف ترامب بأنه “رجل سلام” من قبل القادة العرب، بل ويعتبر ذلك “مبالغة وتودداً زائداً” في الوقت الذي يدعم فيه العدوان على غزة ويقتل اليمنيين، ويُنظر إلى هذه الأنظمة على أنها تسهم بأموالها وخضوعها في “التمديد للأحادية القطبية وهيمنة أمريكا” بدلاً من التحرر منها، وأنها تفتقر إلى القدرة على استثمار ثرواتها الهائلة للتأثير على القرار الأمريكي أو فرض معادلة جديدة تخدم القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة، ويُعتبر التطبيع (تحت مسمى اتفاقيات إبراهام) جزءاً من أجندة ترامب، حيث يُشترط على دول مثل سوريا التطبيع مقابل رفع العقوبات، مع ربط ذلك بطرد الفلسطينيين، مما يؤكد أن التطبيع يأتي على حساب الحقوق الفلسطينية الأساسية.
المسار اليمني الاستثناء المغاير
في بيئة الانبطاح هذه، يتصدر الموقف اليمني مسرح الأحداث كنقطة ضوء ساطعة في “جسم معتم حالك السواد”، واستثناءً مغايراً للوضع العربي السائد، حيث يرفض اليمن الخضوع لتعليمات واشنطن ويلتزم علناً بدعم غزة على كافة المستويات، بما في ذلك الدعم العسكري المباشر وغير المحدود.
وتجسَّد هذا الدعم في “إطلاق الصواريخ الفرط صوتية باتجاه عمق كيان العدو الإسرائيلي”، مستهدفة مطار اللد، وتنفيذ عمليات متتالية “أثارت الرعب والخوف والهلع” في صفوف الصهاينة، كما استهدفت القوات المسلحة اليمنية حاملات الطائرات والسفن الأمريكية في البحر الأحمر، مما “أجبر خمساً منها على تبادل الانتشار” وأدى إلى “فشل خطير” للترسانة العسكرية الأمريكية (فشل ثاد وباتريوت).
وكبدت الضربات اليمنية النوعية واشنطن خسائر فادحة (تصل حسب بعض المواقع الأمريكية إلى 8 مليارات دولار متضمنة كلفة العدوان على اليمن) وهي التي “أجبرت الإدارة الأمريكية على الانسحاب” و”إيقاف العدوان” على اليمن، وتحويل السعودية والإمارات من “أدوات للضغط إلى أوراق للتمويل”.
ويُعتبر الموقف اليمني رسالة واضحة ومدوية مفادها أن اليمن “لا يخضع لترامب ولزبانيته” ويقرر كيف يتعامل مع أعداء غزة والأمة، وأن ترامب “يجب أن يُستقبل بالحديد والنار، وليس بالابتسامات والمديح”.
يُعتبر الانتصار اليمني فعلاً وإسناداً عسكرياً استراتيجياً، يجعل من اليمن “لاعباً إقليمياً مهماً يرسم المعادلات”، فيما انتقلت الولايات المتحدة من “موقع اللاعب الميداني إلى موقع التاجر السياسي، بعد أن خسرت المبادرة على الأرض”، ويُعلي الموقف اليمني من قيمة الشجاعة والرجولة والصمود في مواجهة الأعداء، مقدماً “الدرس اليمني” الذي لو استفادت منه دول الخليج لكان بإمكانها فرض معادلة جديدة لا مكان معها للاستجداء باهظ الثمن.
خلاصة القول، تُظهر شواهد الواقع وتحليلات الخبراء والمحللين تبايناً صارخاً بين المسار اليمني في إسناد القضية الفلسطينية والموقف العربي الرسمي السائد، ففي الوقت الذي تنخرط فيه الأنظمة العربية في صفقات ضخمة مع الداعم الرئيسي للعدوان على غزة وتُقدم له المديح، يتخذ اليمن موقفاً مغايراً تماماً، يعتمد على الدعم العسكري المباشر والتحدي للقوى الكبرى، ويُعتبر الموقف اليمني، نقطة ضوء في ظل الظلام العربي، ويُسهم في إعادة رسم التوازنات الإقليمية، مؤكداً أن المقاومة والصمود هما السبيل الأنجع في مواجهة العدوان والتخاذل، وتؤكد الدراسات المتخصصة وتحليلات الواقع أن “ما بعد 7 مايو 2025م يؤسس لمرحلة جديدة من التوازنات الإقليمية”، التي يساهم اليمن في رسمها من خلال موقفه الصامد، مقدماً نموذجاً يحتذى به في التمسك بالمبادئ والتحرر من التبعية.