تشهد تونس البلد العربي الذي مثل نواة الاحتجاجات الشعبية أو ما يسمى بحركة الربيع العربي حراكاٍ سياسياٍ غير مسبوق من ذي قبل ويتجلى ذلك من خلال الاستعدادات والتحضيرات التي تجري على قدم وساق بعد إقرار دستورها الجديد لإجراء الانتخابات البرلمانية المرتقبة في الـ 26 من الشهر الجاري يلي ذلك إجراء الاستحقاق الرئاسي في أواخر شهر نوفمبر المقبل وسط ظروف سياسية حساسة يمر بها ذلك البلد.
ويأتي ذلك وسط احتدام الجدل الجاري بين أطراف العملية السياسية بمختلف توجهاتها الحزبية لا سيما الأحزاب العلمانية التونسية التي أبدت امتعاضها وتذمرها من وجود بعض الممارسات الخاطئة حيث أطلقت تلك الأحزاب صيحة فزع من استشراء المال الفاسد خلال حملة الانتخابات البرلمانية وأطلقت جملة محاذير من إمعان بعض الأحزاب في شراء ذمم الناخبين التونسيين وهددت بمقاطعة الانتخابات وأكدت أن بعض الأحزاب قد فشلت في تقديم برامج انتخابية واقعية قادرة على إيجاد الحلول والمعالجات لمشاكل المواطنين فلجأت إلى استخدام المال السياسي في حملاتها الانتخابية التي تقف وراءها دول خارجية وهو ما جعل الكثير من التونسيين يبدون مخاوفهم حيال ذلك وأكدوا أن المال السياسي سيؤثر على نزاهة تلك الانتخابات وهذا الاستياء العام وبما قد يجعل الشعب التونسي غير مكترث ولا مهتم بالترتيبات الجارية لخوض الانتخابات ما يعني أن ذلك قد أوجد هوة واسعة وسط الأحزاب والتنظيمات السياسية وظهر صراع السياسة وهو سيد الموقف داخل ذلك البلد.
حيث يرى مراقبون لتداعيات المشهد السياسي التونسي حيال المال الفاسد مؤشراٍ واضحاٍ يؤكد فشل بعض الأحزاب السياسية في تقديم برامج انتخابية ذات مصداقية وواقعية وأكد أولئك المراقبون أن ما يحدث خلال الحملات الانتخابية من خروقات وممارسات هو للتلاعب بإرادة الشعب كون بعض الأطراف السياسية باتت لا تراهن على تجاوب الناخبين مع برامجها وأطروحاتها بقدر ما تراهن على شراء أصواتهم.
وهو ما يعني أن هيمنة المال السياسي على مجريات الانتخابات التونسية أكانت البرلمانية أو الرئاسية يظهر بما لا يدع مجالاٍ للشك بأن الديمقراطية في واقع العملية السياسية في تونس تفتقد لمعايير الوضوح والشفافية وغياب المصداقية الأمر الذي يضع جملة تحديات ومعوقات تعترض نجاح تلك الانتخابات بالنظر لطبيعة العوامل المتداخلة أكان ذلك على صعيد الحملات الانتخابية وأطروحات الأحزاب المتنافسة أو ما يتمثل بالشؤون السياسية التونسية الداخلية القائمة بقواها المتعددة الإسلامية والعلمانية أو كان ذلك على صعيد الأبعاد والمحاور الإقليمية والدولية التي تتهمها الأحزاب العلمانية بأنها وراء ذلك المال الفاسد.
وهذا بالتأكيد يجعل تونس قبالة تحد حقيقي في نجاح تلك العملية الدستورية وفقاٍ لأسس ومعايير وطنية بعيداٍ عن المؤثرات الخارجية السلبية لا سيما وقد دخلت تونس بعد سقوط النظام السابق مرحلة انتقالية اتسمت بأزمات متكررة برغم الحكومات المتعاقبة التي جرى تشكيلها إلا أن تلك الحكومات أخفقت في تطبيع الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية وظهرت معها جملة تحديات حالت دون تنفيذ البرامج التي وعدت بها في وقت سابق مما عمق الصراعات واتضح بعد ذلك من خلال المؤشرات السياسية والمعطيات الراهنة بأن التغيير الذي شهدته تونس لا يزال يتراوح بين الممكن والمتاح.
وإذا كان بحسب ما يتم ترديده في الأوساط السياسية والإعلامية داخل تونس بأن حركة النهضة تسعى للاستحواذ والانفراد بنتائج الانتخابات بطرق ملتوية وغير مشروعة فإن ذلك بالتأكيد ستنتج عنه انعكاسات سلبية ويجعل من ذلك فرصة سانحة للقوى الدولية المتربصة بذلك البلد لا سيما وهناك مؤشرات معلنة وغير معلنة ظهرت بالآونة الأخيرة داخل المشهد السياسي وصارت تتخذ أبعاداٍ وأشكالاٍ متعددة تستهدف تونس والزج بها في أتون الصراعات الداخلية من خلال الإشكاليات القائمة التي يشهدها البلد بالظرف الراهن.
حيث تسعى تلك القوى إلى إفشال الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أكان ذلك خلال الإعداد لحملتها الإعلامية من قبل المرشحين أو من خلال المشاركة أو بعد إعلان النتائج خاصة والقوى الخارجية تريد أن تجعل من تلك العملية الدستورية المرتقبة هدفاٍ لزعزعة الأمن والاستقرار وإثارة الفوضى من خلال الجهد الذي تبذله والذي يجنح نحو إشكاليات عدة لإثارة النزاعات وتعميق الصراعات وإرباك الشعب التونسي عن رسم مستقبله السياسي وفقاٍ لخياراته الوطنية.
وإذا كانت حركة النهضة الإسلامية ذات تأثير شعبي داخل تونس لكن تبدو رؤيتها وتصوراتها للحكم ليست قاصرة فحسب ولكنها وبحسب مراقبين كرست أوضاعاٍ في منتهى التعقيد وساهمت في توسيع نطاق الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها تونس تحت دواعُ ومبررات أبرزها الخطاب التبريري المغلف والتي مفادها نحن الذين سنحكم فإذا كان ذلك صحيحاٍ فإن الاستفسار الذي يجب طرحه بدرجة أساسية هو في كيفية وقدرة تلك الحركة أن تحكم لأن الهدف ليس الوصول إلى السلطة ولكن المشكلة تكمن في كيفية إدارتها والاستمرار فيها بما يلبي طموحات وآمال الشعب التونسي لأن جدلية العلاقة بين الأغلبية والأكثرية دائماٍ ما كانت ذات ثنائية مغلقة.
لأن الهدف المحوري والأساسي والدافع لقيام ثورة الياسمين 2010م هو التحرر من الانفراد بالسلطة وكذا التحرر من حالتي التبعية الأجنبية والارتهان الخارجي من أجل بناء وطن قوي وقادر على تحقيق بنية شاملة وفقاٍ لخيارات تونس الوطنية بعيداٍ عن الوصاية الدولية.
لذلك فإن المهمة الحقيقية في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة التي تمر بها تونس ليس من سيفوز في تلك الانتخابات ولكن في سبل وإمكانية تجنيب تونس الفوضى بالنظر للتحديات الداخلية والخارجية المحيطة بذلك البلد وبالتالي فإن كل تلك التحديات تتطلب من جميع فرقاء العملية السياسية داخل تونس التعاطي مع مجريات الأمور بموضوعية وشفافية عالية والعمل على تضافر الجهود وحشد الطاقات لما من شأنه انجاح الاستحقاق الدستوري المرتقب لكي لا تنزلق تونس إلى النفق المجهول تلبية لمصلح قوى إقليمية ودولية تستهدف ذلك البلد وتراهن على الانتخابات ليس لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية كما يجب وينبغي وإنما لتغذية الصراعات السياسية والأمنية خدمة لأهداف تلك القوى الأجنبية ويظل ذلك بالتأكيد هو التحدي الأبرز أمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية التونسية التي يفترض أن تكون ذات طابع سلمي ينأى عن الفوضى والعنف السياسي ويجعل المنافسة انعكاسا طبيعيا للديمقراطية التونسية وأن تكون تلك العملية الدستورية بوابة عبور حقيقية لكي تتمكن تونس من خلالها تجاوز كافة مشاكلها القائمة التي تعترض طريقها والعمل على تأسيس مرحلة جديدة لما بعد الانتخابات تعطي الأولوية لإيجاد الحلول والمعالجات للمشاكل الاقتصادية والأمنية وكذا إعطاء أولوية لفهم أعمق وإدراك أشمل لجهة التحديات الخارجية المتزايدة حول تونس تحديداٍ والمنطقة العربية على وجه العموم.