أجيال تتذكر .. ظروف صعبة على درب التعليم



> بعضهم أجاد الخط وحفظ القرآن وبعضهم اكتفى بالفاتحة وآخرون منعهم الفقر

في ظروف صعبة يستحوذ الفقر والفاقة وضيق المعيشة على اهتمامات الأسرة اليمنية يصبح التعليم أمراٍ استثنائياٍ في مواجهة سد الاحتياجات المعيشية.
كثيرون تمكنوا من محو أميتهم الأبجدية في ظل تحديات صعبة ومشقات كبيرة على النفس حفظوا القرآن وحفظوا الكتابة واحتفلت مجتمعاتهم بذلك وكانت مبلغ أمنياتهم وآخرون حال الفقر وشظف العيش دون إتمام دراستهم فاكتفوا بحفظ بعض قصار السور لتمكنهم من تلاوة القرآن وأداء الصلاة.
اليوم وبعد مضي عقود خمسة على الثورة اليمنية يتذكر البعض فصول المعاناة والتحديات التي كانت تواجههم في رحلة دراستهم ومحو أميتهم وهذه هي الحصيلة:
بقشتان أسبوعياٍ
الحاج أحمد الحطامي في الثامنة والستين من عمره التحق في صغرة بمعلامة قريته في عزلة وصاب السافل لكن دراسته فيها لم تدم طويلاٍ حيث أمضى نحو ثلاثة أشهر تقريباٍ كانت حصيلتها حفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم.
يصف الحاج أحمد وضع التعليم ومشقته خلال فترة صباه وشبابه بقوله: الدراسة زمان كانت صعيبة لأن المسكين عندما يروح يوم السبت يقرأ الفقية شتي منه بقشتين كل أسبوع والبقشتيان ما تدخل على الواحد إلا بمشقة وكْره وإذا كان الأب معه “3-4” عيال ما يستطيع يدرسهم.
ويضيف لو شقي الواحد في الأسبوع بريال فرانصي سيشتري به الذرة والوزف ويمشي حاله هو وعياله في ستر الله لكن الفقيه إذا مابش البقشتين حقه يقل لك روح لك خلاص.
انتهت رغبة الحاج أحمد بالدراسة عندما عجزت أسرته عن دفع البقشتين للفقيه وحال الفقر وشظف العيش دون استمرار دراسته.
يستذكر قائلاٍ: كان التاجر يستأجر له فقيها لتدريس عياله حتى ينجحوا ويكتبوا لكن آباءنا ما استطاعوش قالوا لنا روحوا زبيد اشتغلوا في البز الأسود.
حينها لم يعد التعليم غاية أو مطلباٍ لأحمد وأسرته إذ بدأ مشوار الصراع والكفاح لكسب لقمة العيش الحلال ويقول: كنا عايشين أيام زمان في ظلام بصدق وكان الإنسان يعيش لما يجي له ملك الموت وهو على عمله وإلا يمرض له شهرين أو ثلاثة وبعدها يموت.
فرح وندم
لذات السبب لم يتمكن الحاج سعيد الزبيدي من الالتحاق بالتعليم في صغره لتحمله مسئوليات الأسرة مبكراٍ بعد وفاة والده وعدم وجود المدارس أو المعلامة في قريته مما يضطر أبناء جيله للذهاب صباحاٍ إلى منزل الفقيه في مدينة زبيد البعيدة عن قريته النائية والعودة عصراٍ.
يتذكر سعيد بألم وحسرة كيف كان يتحاشى الذهاب إلى المسجد للصلاة مع الناس قبل بلوغه سن الرشد لأنه لم يكن يحفظ من القرآن شيئاٍ حتى من الله عليه بمن أخذ بيديه إلى النور وعلمه قراءة القرآن.
يقول سعيد كان عمري عشر سنوات تقريباٍ عندما تعلمت الفاتحة وقصار السور على يد أحد كبار السن في القرية عندما لاحظ أنني ما أروح المسجد فسألني مرة ليس ما أصلي جماعة مع الناس في المسجد فقلت له ما معي ولا شيء من القرآن.
كان ذلك اللقاء نقطة تحول في حياة سعيد إذ بدأ في التردد على ذلك الرجل لتعلم القرآن الكريم من أجل حفظه وتلاوته في الصلاة وكانت فرحته كبيرة عندما أتم حفظ عشر من قصار السور مع أن تتلمذه لم يستمر أكثر من شهر.
يشعر سعيد بأنه حرم من التعليم في صغره ولم يتمكن بعد ذلك من تعويضه بسبب ظروف الحياة المعيشية الصعبة والانشغال بالعمل وتحمله المسئولية مبكراٍ وعدم توفر ما يشجع على التعليم في المجتمع وقتها.
يقول سعيد وقد شارفت سنوات خدمته الوظيفية على الانتهاء والإحالة إلى التقاعد: ندمت كثيراٍ لأني ما استطعت أتعلم حتى إلى صف سادس على الأقل أو محو الأمية ولو كان لي أي مستوى تعليمي إلى جانب سنوات الخدمة هذه لكان راتبي ووضعي الوظيفي أفضل بكثير اليوم.
زفة التخرج
لكن الحال بالنسبة إلى الحاج محمد المقوامي ذي الأربع والسبعين عاماٍ يبدو مختلفاٍ بعض الشيء فقد استمرت دراسته في المعلامة بقريته عاماٍ ونصف أثمرت عن تمكينه من قراءة القرآن الكريم وتعلم الخط.
يقول المقوامي كانت المدرسة في قريتنا بيت المقوامي بمسور عمران وكان الطلاب يأتون إليها من خمس قرى وكان يعلمنا فيها الفقيه حق المحل.
ويرى أنه لم تكن هناك أي صعوبات تحول دون تعليمهم بدليل إقبال الطلاب من القرى المجاورة على مدرسة قريتهم ورغبتهم في الدراسة وحتى إذا وجدت بعض الصعوبات المتعلقة بالإمكانيات التعليمية فيجري ابتكار بعض الطرق القديمة لتذليل تلك الصعوبات.
ويقول: صحيح لم يكن لدينا زمان أقلام ولا مساحات ولا غيرها لكن كان لكل واحد لوح خشب مثل السبورة ويعملوا له قلم من القصب يكتب خطاٍ في أحلى ما يكون والحبر كان تراباٍ ننقفه من الكْتف ونخمره إلى يوم ثاني ونكتب به ويضيف: أول ما تبدأ في الدراسة تكتب الريشتيه وهي الحروف أ ب ت وبعد ما تكمل الحروف تقرأ القرآن ويعلمك الفقيه الوضوء والصلاة وقبل الظهر يخرج بنا ندعو الله ونذكره ونسبحه.
ويستذكر الحاج المقوامي كيف كان المجتمع يشجع أبناءه على الدراسة وتعلم الخط وقراءة القرآن وحفظه أيام زمان وكيف كان يحتفي بالمتخرجين من المعلامة ويقول : كنا ثلاثة من القرية ندرس وعندما حفظت القرآن في سنة أقاموا لي زفة زي العريس وذبحوا اثنين رؤوس غنم والمحل كله يتعشوا.
المقوامي يرى أن أداء الفقيه أيام زمان كان أفضل من أداء المدرسين في الوقت الحاضر مع أنه لم يكن له مرتب شهري أو أجرة محددة وإنما ما يجود به أولياء الطلاب وقت الحصاد من حبوب أو بن أو غيرها.
بيض وخبيط ومداد
لكن الحاج عبدالله الأهنومي من عزلة ردمان بني العوام بحجة وهو اليوم في منتصف العقد الخامس من عمره يذكر أن فقيه المنزلة المدرسة كان يأخذ من كل طالب بيضة أو فرخي صغير كل أسبوع مقابل بعض الحبر الذي يقسمه فيما بينهم أو مادة بيضاء بديلة عنه تشبه الجص.
ويوضح حال التعليم في السنوات الأولى للثورة بقوله: كنا نبكر بدري مشياٍ في حدود ربع ساعة إلى محل أسمه قطين حيث يجلس الفقية وكان الواحد يأخذ الخبز حقه معه واللوح الخشب والقلم القصب وعلبة المداد ويخيطوا له خرقة للختمة وتسير إلى الفقية تجلس تقرأ عنده إلى الظهر لكن نصف اليوم يضيع في خبيط ما تروح إلا ويدك تزقع زقيع.
يبتسم الحاج الأهنومي ويستحضر أحد المواقف الطريفة التي حدثت له أثناء دراسته في المعلامة بقوله: كنا إذا تأخر الواحد منا قليلاٍ يضربه الفقيه بلا رحمة على التأخير وفي إحدى المرات تأخر الفقيه ووصلنا قبلة فاتفقنا نتقاضى منه فذهبنا نبعد له حوجم شجرة شوكية ووضعناه تحت الفرش الذي يجلس عليه وهو وصل بالقهوة البن والعصا في يديه وجمع البيض من الطلاب ووضعهن في جيوبه ثم جلس فجأة على الفرش ما درينا إلا وقد قفز بعيداٍ والبيض تكسرين وتشمت وبعدها رجع وجعلنا كلنا.
الأهنومي تمكن من قراءة القرآن وحفظه على يد هذا الفقيه خلال سنتين من الدراسة المتواصلة لكنه يرى أن التعليم الحقيقي هو ما يتلقاه الطلاب اليوم في المدارس والجامعات وأن دراستهم كانت بالبركة.

قد يعجبك ايضا