الثورة /
بينما تجلس العائلة في بيتها الدافئ، وفي سكون الليل لا يقطعه سوى صوت التلفاز الذي تتابعه العائلة باستمتاع تشاهد فيلما سينمائيا أو مسلسلاً درامياً عائلياً أو حتى فيلم كرتون، تجد الأب يسارع لوضع يده على عيني طفله إذا مر مشهد عنيف أو لا يناسب طفولة ابنه حماية له ولحالته النفسية وطفولته الثمينة الغالية.
يحدث هذا في كل العالم بينما يعيش أطفال غزة أهوال حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ 15 شهرا ونيف بكل تفاصيلها وآلامها وأحزانها وآثارها المدمرة لطفولتهم التي انتهكت دون شفقة أو رحمة في ظل صمت عالمي مريب.
فأطفال غزة الذين يشكلون ما نسبته 47 % من سكان قطاع غزة، يعيشون ظروفاً قاسية أحالتهم إما إلى شهداء أو جرحى أو مصابين بإعاقات دائمة، وإما أيتام الأم أو الأب أو كليهما، أو إخوة وأقارب شهداء أو شهود على مجزرة كانوا فيها من الناجين، إن صح أن يوصفوا بذلك.
وفي حين يستيقظ الطفل “العاديّ” في عالمنا وجلّ ما يشغله هو إنهاء واجباته المدرسية والاستمتاع باللعب، فإن الطفل في غزة كل ما يؤرقه النجاة من الموت، ومساعدة عائلته لتوفير متطلباتها في ظل حياة الخيمة والنزوح التي لا ترحم.
قتل وتجويع وتجهيل
وفق آخر الإحصائيات الرسمية الفلسطينية، فإن عدد الأطفال دون سن 18 سنة في قطاع غزة يقدر بـ 544,776 طفلاً ذكراً، و523,210 طفلات إناث، منهم حوالي 15% دون سن الخامسة (341,790 طفلاً وطفلة).
ومنذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، فإن الأطفال يشكلون 44% من إجمالي الشهداء، وفق الإحصائيات الرسمية الفلسطينية.
وأظهرت فحوصات التغذية التي أجرتها “يونيسف” أن معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال في قطاع غزة تضاعفت تقريباً بالمقارنة مع يناير 2024، حيث ارتفعت من %16 إلى %31 بين الأطفال تحت سن الثانية في شمال غزة، ومن 13% إلى %25 بين الأطفال تحت سن الثانية في جنوبه.
وزاد معدل الهزال الشديد، الذي يعد أكثر أشكال سوء التغذية تهديداً للحياة ويستلزم التغذية العلاجية والعلاج الذي لا يتوفر في غزة، وذلك من %3 إلى %4.5 بين الأطفال في مراكز الإيواء والمراكز الصحية في شمال غزة، وسجل أربعة أضعاف ما كان عليه في جنوب القطاع حيث ارتفع من %1 إلى %4.
ونتيجة للعدوان المتواصل على قطاع غزة تعطلت العملية التعليمية، وحرم حوالي 620 ألف طالب/ة من حقهم بالتعليم المدرسي للعام الدراسي.
ألوان من الألم وأحلام مؤجلة
الطفل يزن (8 سنوات)، مدلل عائلته المكونة من أبيه وأمه وأخته، والذين رحلوا جميعاً في قصف استهدف منزلهم في منتصف يوليو من العام الجاري 2024، وسط قطاع غزة، بينما بقي وحيداً يحمل وصف “الناجي الوحيد” من تلك المجزرة المروعة.
سبق فقدان يزن لعائلته فقدانه لمدرسته التي كان يخطو فيها أولى خطواته ملتحقاً بالصف الأول الابتدائي، ففقد عامه الدراسي الأول بأكمله، وبعدها فقد عائلته كلها، وها هو يفقد اليوم عامه الدراسي الثاني توالياً، دون أن تتوقف الحرب التي سلبت منه حياته قبل أن تبدأ.
“يزن” ورغم ذكائه الملحوظ إلا أنه حتى اللحظة لا يعرف القراءة والكتابة، ويجهل الأعداد والأرقام، منضماً إلى قافلة طويلة من أطفال غزة الذين يعيشون أمية قسرية نتيجة فقدانهم لمدراسهم ومقاعدهم الدراسية نتيجة العدوان الذي لا يتوقف.
“يزن” يؤكد أنه يرغب أن يصبح معلماً مثل والدته الشهيدة التي يحبها كثيراً، والتي يأمل أن يلقاها في الجنة التي ذهبت إليها قريباً، ويقول: “أمي كانت تريدني أن أكون الأول على مدرستي، وأنا أتمنى أن تنتهي الحرب وتتوقف حتى أعود للمدرسة وأحقق أمنيتها”.
أما “محمود” (10 سنوات)، والذي فقد والده في قصف منزلهم، شأنه شأن أكثر من 17 ألف طفل في قطاع غزة فقدوا أحد الأبوين أو كليهما، لم يستطع حتى اللحظة تجاوز ألم الفقد، رغم محاولات المحيطين به تعويضه والاعتناء به.
ووفق عمه أبو ياسر، فإن محمود يعاني آثاراً نفسية قاسية، وعاني لشهور في أعقاب استشهاد والده من التبول اللاإرادي، والاستيقاظ فزعاً ليلاً، علاوة على انطوائه وعدم اختلاطه بأقرانه وهو المعروف عنه اجتماعياته الواسعة وقدرته على نسج العلاقات مع أقرانه بكل سهولة فيما مضى.
محمود، وفق حديثه، لديه أمنية واحدة، يعلم أنه لا يمكن تحقيقها، وهي أن يعود والده إلى الحياة، ويعبر عن شوقه له واحتياجه لتواجده بجوارهم في هذه الحرب التي طالت ولا تتوقف.
شعور الموت وتمنيه وكوارث أخرى
دراسة جديدة أجرتها منظمة غير حكومية مقرها غزة، برعاية تحالف “أطفال الحرب”، في يونيو 2024، كشفت أن 96% من الأطفال في غزة يشعرون بأن موتهم قريب، في حين أن نحو 50% منهم يتمنون الموت نتيجة للآثار النفسية الناتجة عن العدوان الصهيوني الوحشي المتواصل على القطاع للعام الثاني على التوالي.
ووفق الرئيسة التنفيذية لمنظمة “أطفال الحرب” في المملكة المتحدة “هيلين باتنسون” فإن الدراسة تكشف أن غزة تعد واحدة من أسوأ الأماكن في العالم بالنسبة للأطفال، مبينة أن الدمار النفسي الذي يعاني منه الأطفال جرح غير مرئي لكنه مدمر.
وكشفت الدراسة عن مجموعة من الأعراض النفسية الشديدة لدى الأطفال، مثل: الخوف، القلق، اضطرابات النوم، الكوابيس، قضم الأظافر، صعوبة التركيز، والانسحاب الاجتماعي.
والمتتبع لآراء أطباء وخبراء التغذية المتابعين لواقع الأطفال في غزة، يراهم يؤكدون بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأطفال الذين ينجون من نقص التغذية والقصف المستمر والأمراض المعدية والصدمات النفسية، محكوم عليهم بمواجهة مشاكل صحية مدى الحياة.
ويرون أن سوء التغذية سيحرم الأطفال من تطوير أدمغتهم وأجسادهم بشكل كامل، ونتيجة لذلك سيكون العديد منهم أقصر وأضعف جسديا.
المنظمة الأممية للطفولة “يونيسف” قالت، إن الحرب على غزة تجعل الأطفال معزولين عن الرعاية النفسية والاجتماعية.
ولفتت إلى أنه قبل الحرب تم تحديد أن أكثر نصف مليون طفل في غزة بحاجة إلى دعم الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، في حين أن كل طفل يتعرض اليوم لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، وإلى الدمار والتهجير على نطاق واسع، في الوقت نفسه، يتعرض أولياء الأمور والقائمون على الرعاية أنفسهم إلى ضغوط نفسية شديدة.
وترى “يونيسف” أن أطفال غزة عانوا من فظائع لا يمكن تصورها، وهم يستحقون وقفاً فورياً لإطلاق النار وفرصة لمستقبل يعمّه السلام، وفق تعبيرها.
*المركز الفلسطيني للإعلام