مثل غريغوري سامسا الذي استيقظ في أحد الصباحات ووجد نفسه صرصاراً، وهو تحوّل أشبه بالانمساخ، حدثت نسخة واقعية لهذه القصة الغرائبية أخيراً. وبإمكاننا سردها كالآتي: بين ليلةٍ وضحاها، استفقنا على قائد «هيئة تحرير الشام» وهي فرع من فروع تنظيم «القاعدة»، أبو محمد الجولاني بهويةٍ جديدة، إذ به تحوّل إلى أحمد الشرع. هكذا، بقدرة قادرٍ، وبنفس الكابوسية الكافكاويةِ الطاغية على غريغوري سامسا، عاد أبو محمد الجولاني إلى اسمه الأصليّ؛ انمسخ، وتحوّل، وصار أحمد الشرع من جديد. الأسماء والألقاب تدلّ على هويةٍ في كل الأحوال، ونحن نعيش في زمن الهويات، وفي زمن حرية اختيار الهوية التي نريدها؛ دمقرطة (مفهوم) الهوية عبر الفرض، والإكراه والإخضاع، بأسلوبٍ فاشيّ حيث عليكَ تقبّل الظاهرة البادية أمامك بإذعان، من دون نقدٍ، ولا تشكيك أو مساءلة، فقط لأنها من خيار صاحبها. في العالم الجديد الحرّ، يمكنك أنْ تكون طاولة مثلاً، إرهابيّاً، ثائراً تغييريّاً، «القنطور» يعني نصف إنسان مثل مخلوقات أساطير الإغريق… بإمكانك أن تكون ما تشاء ما دام وجودك يناسب روح العصر ولا يهدّد الاستعمار.
قبل أيامٍ قليلة، أذاع الإعلام العربيّ خبراً عاجلاً تناقلته معظم الوسائل الإعلامية كأنه قرار تعميميّ: «تحولات أبو محمد الجولاني». الخبر المكتوب بنبرةٍ فيه من البهجة التي لا تخفى على القارئ، أفاد عن التغيّر الأخير الذي طاول الرجل: لقد صار أحمد الشرع، وقد أعلن قطع العلاقات التي تربط «هيئة تحرير الشام» مع تنظيم «القاعدة»، وأنّ تنظيمه، أي «هيئة تحرير الشام» يسعى إلى تحسين صورته، وإثراء خطابه وتوسيع مداه بشكلٍ يناسب سوريا المتنوعة، والثرية بتعددها. وينتهي الخبر بأنّ «نبرة خطاب الشرع لم تعد حادة كما كانت عليه من قبل، ومنذ مدة وهو يظهر بلباسه العسكري، كما أنّ ذقنه مشذبة». وسرعان ما نشرت منصات إلكترونية معروفة برداءة محتواها الصحافيّ هذا الخبر وأرفقته بصورةٍ عن أبو محمد الجولاني الممسوخ، أي أحمد الشرع، ويبدو فيها بالـ«نيو لووك»، بالهوية الجديدة: وجهٌ صافٍ، مقاتلٌ رزين، بشرة نضرة تؤكد صحته العقلية، والبزة الزيتية التي تعني من ضمن ما تعنيه، الخلاص من الاستبداد، القائد القوي، والتخلص من… الإرهاب. إنها مرحلة جديدة يدخلها أبو محمد الجولاني إذاً، وهذه المرة تحت اسم: أحمد الشرع.
بعد شيوع هذا الخبر بنهارٍ واحد، أجرى أحمد الشرع مقابلة مع قناة «سي. إن. إن» حول التطورات الأخيرة في سوريا، وحول تبدلاته الهوياتية، مفصحاً عن التغيّر الطفيف الذي طال جندره السياسيّ. غير أنّ الـ« سي.إن.إن» كانت تبحث عن (صناعة) مانيفستو جديد يتلوه القائد الجديد أكثر ما كانت تتوق إلى إجراء مقابلة معه. وقد حرصت القناة على تزويد المشاهد بكل ما يلزم حتى تمنعه من نقد، وتشكيك، ومساءلة هويته جديدة، بل تقبّلها والإذعان التام لانمساخه هذا. حساسية المشاهد العربي فائضة تجاه كل ما يقدّم له في الإعلام، فهو قابع تحت سطوة المَشاهد والأخبار لما يزيد عن عقد من الزمن، بالتالي من السهل أنْ يمرَّ عليه كابوسٌ كانمساخ الجولاني، ويصدّق هذا التحول كحقيقة. المُشاهد الغربي يريد المزيد من الضمانات، اللحية تخيفه، وشبح الإسلاموفوبيا يطارده حتى في أحلامه. أطلّ أحمد الشرع مرتدياً بزّته العسكرية على شاشة الـ «سي.إن.إن» حليق الذقن، شعره مصفف، واثقاً ومعتداً بنفسه، عندما يتحدث يحرك حاجبيه ويجيب عن أسئلة مضيفته، وعندما يتلقى الأسئلة منها، ينظر بعيداً مثل أيّ فيلسوفٍ عميق صاحب نظريةٍ تحررية.
في مقابلة الـ «سي. إن. إن»، نحن أمام عودة أبو محمد الجولاني إلى رشده. من طفولةٍ أمضاها في السعودية، إلى «مغامرات» عمر الشباب في أحضان الزرقاوي والبغدادي والقحطاني، فالنضوج و«الصحوة» الأخيرة. ثمة إثمٌ يُراد محوه. ثمة تاريخ يُراد أن يُحذف بشخطة قلمٍ؛ بصورة بزة عسكرية، باللون الزيتيّ، بخطابٍ «معتدل»، صائب سياسياً كما يناسب معايير حقوق الإنسان «الشرق أوسطيّ»، وحدود النضال السياسي التي يصفّق لها الرجل الأبيض. أعرب الشرع في مقابلته أنه يريد وضع حدٍّ للأسد، وإسقاط النظام في سوريا، واعترف أنّ «المعارضة السورية» تتكوّن من أيديولوجياتٍ مختلفة، فـ«الثورة» تحوي فصائل كثيرة وترحّب بالجميع، كما أقرّ أنّه ينوي التخفيف من «أسلمة» هذه «الثورة»، فالتطرف ألقى بظلاله على طموحاته، وقضى على أحلامه الكبيرة. على هذا النحو، ظهر أحمد الشرع المعروف بلباسه العسكريّ، الثائر ضد النظام، قائد «المعارضة المسلحة» كأجمل خلاصٍ سوري. فمن جهةٍ هو ضد النظام المستبدّ، ومن جهةٍ أخرى هو محارب شرسٌ؛ محاربٌ لا يجلس تحت راية العقاب التي اتخذها تنظيم «داعش» شعاراً له وسبق للشرع قبل انمساخه ــــ أي عندما كان أبو محمد الجولاني ـــــ الظهور بجانبها، إنّما ظهر كقائدٍ وطنيّ جلّ همّه تحرير بلاده من مصائبها الكثيرة: من قيظ الإرهاب والاستبداد اللّذَيْن فتكا بسوريا.
وبعد الخبر الذي أعلن عن «تحولات الجولاني»، ومقابلة الشرع مع «سي. إن. إن»، استولت قوات «هيئة تحرير الشام» على حلب، ثم سيطرت على حمص، ومن بعدها دمشق، فالمدة الزمنية التي لزمت الجولاني لكي ينتقل إلى أحمد الشرع، هي ذاتها التي أخذت سوريا حتى تنتقل من البعث إلى… «الشرعاوية» (من أحمد الشرع). و«الشرعاوية» هذه لهي أيديولوجيا أبو محمد الجولاني المُستترة والمتلطية خلف اسمه الحقيقي. إنها ليست المرة الأولى التي يكون فيها اللقب أكثر أصالة من الاسم الحقيقيّ وأكثر صدقاً منه، من حيث أنه تكثيف للسمعة أي للصيت، وإسباغ المرء بالصفات التي يشتهر فيها وإظهارها علناً. كما أنها ليست المرة الأولى التي يُعلَن فيها عن تحولاتٍ خضع لها الجولاني؛ هو الذي شارك مع أبو مصعب الزرقاوي في حمّامات الدم في العراق بعد عام 2003 وتخلى عنه، ثم أكمل صولاته في سوريا منذ عام 2014 مع أبو بكر البغدادي قبل أن يختلف معه، ثم حاول التوليف بين «داعش» و«جبهة النصرة»، لينتهي به المطاف أخيراً «مدنياً» على شاكلة أشرف ريفي. وفي كل تحولاته، لم يختلف فيه شيء سوى تصفيفة شعره وحجم لحيته. على أنّ ما جعل هذه «الشرعاوية» تطوف ـــ وما أعطى أحمد الشرع علّته ــ هو ببساطة، البدلة العسكرية التي تنطق أكثر بكثير من خطابه الإنشائي. في عالم الثورات الحديثة، تحديداً ما يسمّى الربيع العربي، الصورة هي الكلمة الوحيدة الأولى والأخيرة. لكي يكتمل تغيّر الهويات، أو تحوّلها وانمساخها كما هي حالة سامسا والشرع، إذ إنها تحتاج وسيطاً. ولعلّ الوسيط الأبرز، الذي يشكّل بحد ذاته الرسالة كما سبق لمارشال ماكلوهن أن نظّر، هو الرداء العسكري الذي اتخذه الشرع.
باتت «البدلة الزيتية» التي كانت في ما سبق رمزاً للنضال ولحركات المقاومة التي تتخذ من حرب العصابات نمط عيش؛ من عدّة الماكياج عند الفاشيين الجدد. قبل ارتدائه «الزيتي»، كان ابن الناتو المدلّل، زيلينسكي، يرتدي القناع نفسه كل يوم قبل ذهابه إلى عمله بوصفه مهرجاً. تولى زيلينسكي رئاسة أوكرانيا، وفي مرحلة تنتمي إلى الماضي القريب، تمكيَج في لباس البزة العسكرية وصار ينظر إلى نفسه في المرآة كأنه هتلر الذي استطاع دخول ستالينغراد. غدا المهرج بين ليلةٍ وضحاها مخلّص العالم من مثالب الستالينية ومحور الشر. نحن أمام ظاهرة مماثلة مع أحمد الشرع. البدلة الزيتية هنا أشبه بقطيعة مع ماضٍ تجري أحداثه في المقابر، أحداث هدر الدم، وقطع الرؤوس، والمجازر. وكون البدلة الزيتية تنبثق من سياق العسكر، من القوة، ومن أفعال الأمر، صار تشريع، أو شرعنة، ما كان محظوراً، وما كان أحمر قانياً وهو لون الدماء السائلة بعد الذبح، سهلاً وأمراً واقعاً. يفرض اللون الزيتيّ حضور الطابع الشرعيّ لحركات الإرهاب؛ للفاشية الحديثة. وهذا اللون إذ يضفي رونق التمدن والمدنيّة على قضيته السياسية، فإنه لا يبيّض تاريخ المجرمين فقط، بل يعطي الجماهير حجةً قابلةً للتصديق حتى تنطلق الفاشية نحو مستقبلها من حاضرٍ تنادي فيه بالمأسسة، والانفتاح، والتعددية وهي كلّها مزاعم، حيث باطنها يختلف عن ظاهرها. فالجولاني وأربابه، هم الذين يقرّرون في نهاية المطاف، وليس أحمد الشرع ولو ارتدى «الزيتي» ومهما تكلم بلغة الديموقراطيين. هذه المرة الأولى التي نكون، نحن اللبنانيين، سبّاقين في شيء. قد يكون بإمكاننا استشفاف مسار الأحداث والجهة التي ستؤول إليها كون تجربتنا مع البدلة الزيتية حاضرة في أذهاننا كما في تاريخنا. وعلى ما يبدو، فإنّ «الزيتي» طور تاريخيّ، مرحلة من مراحل التاريخ عند الفاشيين؛ وهي مرحلة لا تكتمل من دون أن يليها مرحلة خلع «الزيتي». إذا كان ارتداء «الزيتي» تبييضاً لسجل الماضي، وتشريعاً للإرهاب المرتكب، فإنّ خلع «الزيتي» هي مرحلة «الأممية»؛ تأميم المؤسسات عبر التماهي حد الامحاء مع صندوق النقد الدولي وانحيازات الناتو. إنها مرحلة الحكم السياسي، حيث ابتزاز الأطراف المعارضة للحكم اللاحق سيكون عبر تذكيرهم بالعودة إلى اللّباس «الزيتي» من جديد إذا استمروا في معارضتهم، ولنا في هذه التجارب خبرة وشهادة. وبين ارتداء البدلة الزيتية وخلعها، هناك مسار سيكون محموماً، وحروبٌ حتمية، ومجازر مؤجلة؛ إنه حاضرنا الذي لم ينضج بعد.
كاتب وصحفي لبناني