تراشق المنشورات والبالونات يلوح بالإعصار الكبير: توترات شبه القارة الكورية هل تقود إلى حرب بين الكوريتين

 

 

حدة التوتر بين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية تصاعدت بصورة كبيرة خلال الأيام الماضية بعد اتخاذ حكومة بيانع يانغ خطوات عززت القطيعة مع جارتها الجنوبية بتفجيرها طرقاً وسككاً حديدية خاصة بها بالقرب من الحدود مع كوريا الجنوبية، على ضوء تعديلات دستورية اعتبرت كوريا الجنوبية عدوا، في ظل تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة التي تتهم كوريا الشمالية بدعم روسيا في حربها الدائرة في أوكرانيا.

الثورة / أبو بكر عبدالله

شبح الحرب بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، عاد من جديد ليخيم على شبه الجزيرة الكورية، بعد تداعيات متسارعة شهدتها العلاقات بين البلدين، اللذين شرعا برفع مستوى التأهب والاستعداد العسكري على جانبي الحدود في ظل تصاعد نبرة التهديدات المتبادلة وتبادل القصف المدفعي بالتوازي مع عودة حرب المنشورات الدعائية بين البلدين اللذين يعيشان حالة حرب منذ توقيع اتفاق الهدنة بينهما مطلع خمسينيات القرن الماضي.
حالة التوتر الجديدة أعادت إلى الأذهان وقائع حرب الثلاث سنوات التي اندلعت بين البلدين في خمسينيات القرن الماضي وأدت إلى مقتل 5 ملايين نسمة، نصفهم من المدنيين، في حصيلة خسارة كبيرة فاقت تلك التي سُجلت في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام.
فتيل التوتر العالي بين الكوريتين اشتعل في يناير الماضي، غداة مناورات عسكرية أمريكية كورية جنوبية أثارت قلق الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي دعا إلى تعديلات دستورية جديدة تصنف الجارة الجنوبية بأنها “العدو اللدود الدائم”، وهي الخطوة التي تمت فعلا بتعديل الدستور الذي صنف كوريا الجنوبية على أنها “دولة معادية”.
اتهم الزعيم الكوري الشمالي آنذاك كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بتحويل شبه الجزيرة الكورية إلى منطقة حرب محتملة من خلال المناورات العسكرية ونشر معدات استراتيجية معتبرا ذلك قطعا للطريق أمام جهود إعادة توحيد الكوريتين، تابعا ذلك بأمر قواته تفجير طريقين وسكك حديدية بالقرب من الحدود مع كوريا الجنوبية وهي المشاريع التي حملت مؤشرات رمزية بحسن النية من الجانبين للمضي بعلاقات ودية قابلة للتطور تفتح الطريق للحوار والتفاوض.
والخطوات التي اتخذتها الحكومة الكورية الشمالية مؤخرا بتفجير الطرق الرابطة بين حدود البلدين أثارت التساؤلات عما إن كان الزعيم الكوري الشمالي قد حسم أمره بالاستعداد للحرب، خصوصا وأنها تزامنت مع إطلاقه تهديدات بسحق كوريا الجنوبية بالسلاح النووي، في أخطر تهديد يوجه إلى كوريا الجنوبية التي صارت تشعر أن هناك مخاطر باشتعال حرب وشيكة مع الجارة الشمالية.
وهذه التداعيات لم تكن الوحيدة في المشهد، فقد أطلقت كوريا الشمالية في الآونة الأخيرة مئات القذائف المدفعية على المياه القريبة من الجزر الحدودية الكورية الجنوبية، كما أطلقت تجارب لصواريخ بالستية بعيدة المدى وقادرة على حمل رؤوس نووية ناهيك بإجرائها اختبارات لغواصات مسيرة نووية لصد الاساطيل البحرية الكورية الجنوبية والأمريكية.
تداعيات متسارعة
طوال السنوات الماضية ظل التوتر بين الكوريتين عند مستويات عادية في ظل تبادل الجانبين حرب البالونات على شاكلة إطلاق كوريا الشمالية بالونات باتجاه كوريا الجنوبية محملة بالقمامة والقاذورات ردا على إطلاق كوريا الجنوبية بالونات تحمل منشورات تناهض النظام الكوري الشمالي.
لكن خطوة تعديل الدستور من جانب بيونغ يانغ، تحولت إلى أزمة كبيرة بين الكوريتين أعقبها تداعيات وتهديدات متبادلة أعادت العلاقات المتوترة بينهما إلى نقطة الصفر بل وحملت مؤشرات جدية بأن الجانبين يمضيان بسرعة نحو الحرب.
اشتعلت نيران التوتر بين الجانبين بصورة كبيرة غداة الرد غير المسبوق الذي اتخذته الحكومة الكورية الجنوبية بإطلاق طائراتها المسيرة نحو الأراضي الكورية الشمالية لمسافة 160 ميلاً والعودة بعد القائها عددا هائلا من المنشورات الورقية المناهضة للنظام في كوريا الشمالية، وتكرارها إطلاق المسيرات إلى أراضي كوريا الشمالية التي تمكنت من إسقاط إحداها وتهديدها بأن أي انتهاك آخر للمجال الإقليمي من قبل كوريا الجنوبية فإنه سيعتبر بمثابة “إعلان حرب”.
زاد من ذلك إعلان بيونغ يانغ تسجيلها نحو 1.4 مليون شاب تقدموا بطلبات للانضمام إلى الجيش ردا على ما سمته الاستفزازات الكورية الجنوبية، بما اعتبرته سول “إعلان حرب” أطلقت في أعقابه تحذيرات بأن بدء كوريا الشمالية الحرب عليها أو استخدامها الأسلحة النووية ستكون نهاية للنظام في بيونغ يانغ.
هذه التداعيات أشاعت مخاوف من انجراف البلدين إلى حافة الحرب، خصوصا بعد زيارة الزعيم الكوري الشمالي مقر قيادة الفيلق الثاني للجيش لمراجعة خطط الدفاع وتأكيده على ضرورة أن يضعوا في اعتبارهم “أن كوريا الجنوبية دولة أجنبية ودولة معادية بشكل واضح”.
استعدادات الحرب
لم تشعر كوريا الجنوبية بالقلق من تحركات جارتها الشمالية مثل اليوم، فالحكومة هناك اعتادت من نظيرتها الشمالية الالتزام بقواعد اشتباك معينة في استفزازاتها التي تصاعدت بصورة غير مسبوقة في الآونة الأخيرة لدرجة أن البعض اعتبرها دليلاً على أن كوريا الشمالية وصلت إلى طريق مسدود في مسار مفاوضاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة تجاه العقوبات المفروضة عليها، وصارت تخطط لشن هجوم عسكري على جارتها الجنوبية الحليفة للولايات المتحدة.
هذا الاحتمال تعزز أكثر بعد إعلان الجيش الكوري الشمالي أنه سيقوم بقطع وإغلاق الحدود مع كوريا الجنوبية بصورة دائمة، وبناء هياكل دفاعية أمامية بالتزامن مع إصدار هيئة أركان الجيش الشعبي لكوريا الشمالية، الأوامر العسكرية بوضع تشكيلات المدفعية بالقرب من خط الحدود في حالة تأهب قصوى لإطلاق النار، ونشرها 250 قاذفة صواريخ باليستية عند حدودها الجنوبية.
تزامن ذلك مع تهديدات علنية قوية أطلقها الزعيم الكوري الشمالي وهدد فيها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بالأسلحة النووية في حال هاجمتا بلاده ناهيك عن تهديده بأن بيونغ يانغ لن تتردد في استخدام جميع القوات الهجومية المتاحة في حال الاعتداء عليها واستخدام الأسلحة النووية إذا حاولت دول أخرى التعدي على سيادة الجمهورية.
وانتقال البلدين إلى مرحلة الاستعداد للحرب، لم يكن صناعة كورية شمالية فقط، فقد عمدت كوريا الجنوبية منذ اليوم الأول لاستئناف الحرب الدعائية ضد جارتها الشمالية، من خلال بث رسائل مناهضة عبر مكبرات الصوت على طول الحدود بين البلدين، كما علقت الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع الشمال والهادفة إلى خفض التوتر، واستأنفت التدريبات العسكرية بالذخيرة الحية في جزر حدودية، وقرب المنطقة الحدودية منزوعة السلاح.
تزامن ذلك مع إعلان الحكومة الكورية الجنوبية أن الجيش الكوري الجنوبي سيستجيب على الفور لاستفزازات كوريا الشمالية استنادا إلى قدرات قتالية قوية وموقف استعداد قوي، داعيا نظام بيونج يانج إلى التخلص من “الأوهام” بأن الأسلحة النووية تضمن أمنه.
والأمر لم يكن بعيدا عن توترات سابقة دعت الرئيس الكوري الجنوبي يون سيوك بالرد الساحق والحازم على كوريا الشمالية من قبل التحالف “الكورى الأمريكي في حال استخدام الأسلحة النووية وتعهده بتعزيز الموقف الأمني على أساس التحالف القوي مع الولايات المتحدة، فضلاً عن التعاون الأمني الثلاثي الذي يشمل اليابان، وهي التصريحات التي ظهرت غداة كشف كوريا الشمالية عن أحدث منشآتها لتخصيب اليورانيوم القادرة على إنتاج أسلحة نووية”.
معطيات خارجية
أكثر التقديرات تشير إلى أن احتمال اندلاع الحرب بين الكوريتين صار أمرا واردا، بعد أن فتحت بيونغ يانغ نافذة للتعاون مع روسيا أفضى خلال الفترة الماضية إلى تقديم روسيا تكنلوجيا متطورة عسكرية وفضائية وظهر اليوم في الدعم الذي قدمته كوريا الشمالية لروسيا في رفدها بالمقاتلين من ألوية النخبة وتزويد روسيا بقذائف مدفعية وصواريخ لسد العجز الحاصل في الحرب الروسية بأوكرانيا.
وهناك اعتقاد واسع لدى الخبراء في الكوريتين أن حالة التوتر بدت مرتفعة هذه المرة، نتيجة تنامي التعاون الروسي الكوري الشمالي والذي كان بمثابة إعلان مواجهة ضد واشنطن وحليفتها كوريا الجنوبية وسط مخاوف من أن أي صدام صغير قد يتحول إلى حرب واسعة نطاق.
والتعاون الروسي الكوري الشمالي كان موضع نقاش لدى لجان المخابرات في الكونغرس التي أصدرت مؤخرا تقريرا حذر من أن دخول كوريا الشمالية في الحرب الروسية الأوكرانية يجب أن يكون خطاً أحمر لأمريكا كونه يعني أن كوريا الشمالية أصبحت على أعتاب مناطق حلف “الناتو”.
هذه التقديرات بدت واقعية إلى حد كبير، خاصة وأن كوريا الشمالية لم تعد تراهن على التغيير المحتمل للإدارة الأمريكية في الانتخابات المقبلة، وتبدو قد حسمت أمرها تجاه مسار المفاوضات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، في ظل استمرار كوريا الجنوبية بتوجيه الرسائل إليها بأن تعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة ثابت بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل.
الخسائر المحتملة
التقارير الدولية التي تحدثت عن امتلاك كوريا الشمالية ترسانة تقدر بـ 80 – 90 رأسا حربيا، أثار المخاوف من أن تقود أي حرب بين الكوريتين إلى كارثة كبيرة، خصوصا وأن هذه الكمية تكفي لشن ضربات نووية على كوريا الجنوبية واليابان، وصولا إلى الولايات المتحدة.
والمخاوف من جانب كوريا الجنوبية تبدو كبيرة للغاية اليوم، فالتقديرات تشير إلى أن الحرب في حال اندلاعها سوف تتسبب في تدمير نصف قطاع التصنيع في كوريا الجنوبية، ومعظم قدرتها على إنتاج أشباه الموصلات، ناهيك عن تعطل ممرات الشحن بالقرب من الصين وروسيا واليابان.
وفي ظل الاحتمالات التي تُرجح انضمام الولايات المتحدة والصين إلى جانبي الصراع كما فعلتا في الحرب الكورية السابقة فإن انعكاساتها السلبية يهدد بآثار خطيرة على الأسواق العالمية بصورة عامة.
هذا الأمر كان محور تقارير دولية صدرت مؤخرا وحذرت من أن أي حرب قد تندلع في شبه الجزيرة الكورية بين الجارين الجنوبي والشمالي، ستقود إلى مقتل الملايين كما ستؤدي لخسائر مادية هائلة، في حين ستكون لها تبعات كبيرة للغاية على الاقتصاد العالمي الذي سيتكبد نحو 4 تريليونات دولار في السنة الأولى، بما يعادل ضعف الخسائر التي تكبدها العالم نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا.
وثمة توقعات بأن تؤدي الحرب إلى توقف صادرات الإلكترونيات الكورية الجنوبية، ما قد يسبب أزمة كبيرة للاقتصاد العالمي، بالنظر إلى حجم الإنتاج الذي تنتجه كوريا الجنوبية من المكونات الإلكترونية المستخدمة في الصناعات الحديثة والتي تقدر بحوالي 4 % من احتياجات مصانع التكنلوجيا في أنحاء العالم.
عوامل اشتعال
يمكن القول إن العامل الخارجي لا يزال المتحكم في ميزان تحسن أو تدهور العلاقات بين الكوريتين بل والمؤثر الأكبر في معادلات اندلاع الحرب أو استمرار الهدنة بينهما،
ذلك أن تداعيات الجبهة الدبلوماسية التي حصلت بعد إعلان بيونغ يانغ إنهاء الشراكة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، تعزز احتمالات اندلاع الحرب خصوصا مع مضيها نحو شراكة أكثر شمولا مع روسيا التي منحت بوينغ يانغ وعودا بتقديم مساعدات غذائية ومساعدة تكنولوجية لبرامج الأسلحة وبرامج الفضاء الكورية مقابل دعمها في الحرب الدائرة في أوكرانيا.
ومن جانب آخر فإن حالة التوتر بين الولايات المتحدة والصين على خلفية ملف تايوان قد تتصاعد في حال قررت واشنطن المضي بدعم حليفتها كوريا الجنوبية استنادا إلى المعاهدات الموقعة بين البلدين عام 1961 والتي تلزم كل دولة بتقديم مساعدة عسكرية إذا تعرضت الدولة الأخرى لهجوم عسكري.
ورغم أن احتمالات هذا الأمر قليلة، إلا أن تحققه سيقود حتما إلى تداعيات ليس أقلها توقف الصين عن ممارسة الضغوط على كوريا الشمالية لوقف خططها في شن مغامرة عسكرية مع جارتها الجنوبية، ما يجعل احتمال تفجر الحرب بين الكوريتين أمرا واردا في أية لحظة.

قد يعجبك ايضا